مقالات

حكم “الجنائية” أعاد لثورة الإنقاذ عنفوانها

عائد من السودان.. البشير يشكر اوكامبو

وأخيرا صدر قرار المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية اوكامبو بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير، والذي لم يكن اساسا بالامر المستغرب او المستبعد، فجميع المؤشرات كانت توحي بهذا الاتجاه، حتى ان عددا من المسؤولين السودانيين الذين التقيتهم خلال وجودي بالخرطوم قبل يوم من صدور مذكرة التوقيف، يتحدثون عن أن هناك قرارا ضد الرئيس البشير من المؤكد انه سيصدر، والسبب بكل بساطة ان هذا القرار قد “سرّب” إلى الدوائر الأمريكية الرسمية ومراكز الدراسات ووسائل الاعلام قبل ذلك بكثير، اضافة الى ذلك فان حلقات التآمر على السودان لم تنقطع يوما ما منذ مجئ حكومة الإنقاذ في يونيو 1989، فلا يكاد يمر انجاز او مكسب تحققه هذه الحكومة، سواء كان ذلك على مستوى حل الازمات السياسية او الاقتصادية او انجاز مشاريع كالبترول والسدود والتوسع في التعليم او الصحة ..،إلا وتجد قرارا دوليا “منغصا” يصدر، وقبل هذا وذلك لم تكن هناك حيادية في هذه المحكمة، فأبسط الامور كان يفترض مثلا على المدعي العام اوكامبو أن يقوم بزيارة ميدانية الى دارفور، للوقوف على حقيقة الاوضاع هناك.

لا احد ينكر ان مشكلة قائمة في اقليم دارفور، وهو امر تؤكده الحكومة السودانية، ولكن الغريب ان قرار محكمة الجنايات جاء بحق الطرف الحكومي، وكأن الحرب في دارفور هي من طرف واحد، ولم يأتوا على ذكر حركات التمرد التي تتغذى على دعم خارجي، امريكي وأوروبي ودول الجوار.

الحيادية كانت تفرض على هذه المحكمة القيام بزيارات ميدانية الى كل الاطراف، ولكن القرار كان “مبيتا” في ليل ـ كما يقولون ـ وهدفه فرض المزيد من الضغوط على هذا البلد، الذي ” يتمرد” على السياسة الامريكية والغربية، التي تستهدف السيطرة على السيادة والقرار السياسي وثروات البلد، واخضاعه للهيمنة الخارجية، وفرض املاءات غير مقبولة.

لقد وضعت قطر يدها في ملف دارفور، سعيا منها لإيجاد حل لهذه القضية، ولم تنحز إلى الطرف الحكومي، بل قدمت نموذجا حيا في الحيادية والموضوعية مع جميع الاطراف، فلم تكتف بلقاءات مع طرف دون آخر، ولم تكتف بأقوال شفهية يقولها هذا الطرف او ذاك، بل اوفدت وزير الدولة للشؤون الخارجية سعادة السيد احمد بن عبد الله آل محمود الى اقليم دارفور، والتقى على ارض الواقع مع زعماء وشخصيات بالمنطقة، ووقف بنفسه على تداعيات القضية بكل ابعادها، ليرفع بذلك تقريرا مفصلا ومحايدا، قبل الاقدام على اي خطوة عملية في اتجاه ايجاد حلول أو جمع الفرقاء.

هذا النهج القطري الواعي الم يكن باستطاعة اوكامبو القيام به، ان كان بحق يريد تطبيق العدالة التي يتحدث عنها، ولكن الامر ليس كذلك بالنسبة لاوكامبو الذي يتلقى “اوامر” من واشنطن وعواصم غربية .

لست ادافع عن عمر حسن البشير، وان كان الرجل يستحق من يتحدث عنه، ويدافع عنه كذلك، ولكن العدالة الغائبة هي التي تفرض على كل الشرفاء ان يرفعوا اصواتهم في وجه الظلم الذي تتعرض له امتنا، ويتعرض له كل من لا يسير في الفلك الامريكي والغربي.

يتحدثون عن جرائم ارتكبت في دارفور، وقد نؤيدهم فى ذلك، ولكن ماذا عن الجرائم التي ترتكب في فلسطين والعراق وافغانستان ولبنان والصومال وباكستان ..، والتي جاءت على ايدي الادارة الامريكية وحليفتها اسرائيل، اليس هناك “مجرمون” سياسيون وقادة عسكريون في امريكا واسرائيل ارتكبوا جرائم قتل وتدمير واجتياح لمدننا وعواصمنا العربية والاسلامية ؟ ماذا عن مليون قتيل في العراق واكثر من خمسة ملايين مهجر منذ احتلال القوات الامريكية للعراق؟ ماذا عن افغانستان والجرائم الامريكية اليومية حتى حفلات الافراح لم تنج من الغارات الامريكية ؟ ماذا عن ضرب مصنع الشفاء في السودان ؟ ماذا عن الجرائم الاسرائيلية اليومية في فلسطين ؟ ماذا عن جريمة العدوان على غزة التي مازالت دماؤها سائلة في طرقات غزة ؟ ماذا عن لبنان والاجتياحات الاسرائيلية وعدوان يوليو 2006 وقبله العشرات ؟ ماذا عن الغزو الامريكي للصومال ؟ وماذا عن استهدافها المتواصل للآمنين في باكستان بدعوى محاربة الارهاب ؟ وماذا عن قيام امريكا عمدا بإسقاط طائرة مدنية ايرانية في مياه الخليج ؟ .. ماذا وماذا … القائمة ستطول.

لقد بررت امريكا غزوها للعراق بأنه يمتلك اسلحة كيماوية، واذا بالرئيس الامريكي السابق يعترف بنفسه ان العراق خال من الاسلحة الكيماوية، واعترف معه رئيس الوزراء البريطاني السابق بلير بان العراق لم يكن يملك تلك الاسلحة، فلماذا لم يقدم اوكامبو على اصدار مذكرة توقيف بحقهما، والطلب من جميع الدول القاء القبض عليهما اذا لم يمتثلها لمذكرته ؟ .

قد يقول البعض ان امريكا ليست عضوة في هذه المحكمة، والسودان ايضا ليس عضوا في هذه المحكمة، فلماذا يطبق القانون على السودانيين البسطاء، وتترك الدولة العظمى تعيث بالارض الفساد؟

والغريب أن أول المؤيدين لقرار محكمة الجنايات بحق البشير، كانت امريكا، فاذا كانت الولايات المتحدة الامريكية مقتنعة بعدالة هذه المحكمة، وحريصة على تطبيق العدالة المزعومة، لماذا لا تنضم اليها، وتكون عضوا فاعلا فيها ؟ ولماذا اقدمت على توقيع اتفاقيات ثنائية لحماية جنودها وسياسييها من أي ملاحقة قانونية من اي محكمة في العالم ؟

نائب رئيس الجمهورية السوداني علي عثمان طه، وهو رجل فاضل، وسياسي محنك، قال اننا مطمئنون الى عدالة قضيتنا، قلت له : صحيح هذا الامر، لكن العالم اليوم لا يعترف بالعدالة، انما يعترف بالاقوياء، العدالة الدولية مغيبة عندما يكون طرفها العالم العربي والاسلامي .

امريكا تقتل وتدمر وتحتل، ثم يقال عنها انها داعية ديمقراطية، بينما المقاومون لسياستها هم ارهابيون، ويشكلون “محورا للشر”، ومن لم يكن معها فهو عدوها.

اليهود احتلوا فلسطين، واقاموا دولة لهم بدعم غربي وامريكي، ومنذ دخولهم فلسطين وهم يقتلون النساء والاطفال والشيوخ ويدمرون كل شيء حي بما فيه الشجر والحيوانات، ولم يقتصر عدوانها على الشعب الفلسطيني، بل امتد الى دول الجوار، مصر وسوريا والاردن ولبنان والعراق وتونس ..، فماذا فعل لها ؟ بل بات رجالات الدولة العبرية يسمون بـ “حمائم السلام”، بينما فصائل المقاومة في فلسطين، حماس والجهاد والفصائل الاخرى يسمون بالارهابيين لأنهم يدافعون عن ارضهم، وفي لبنان عندما تصدت قوى المقاومة حزب الله والحركات الاخرى للاعتداءات الاسرائيلية سموهم بالارهابيين، اي منطق هذا الذي يحكم العالم اليوم، اليس منطق القوة.

البشير اليوم يكون ثالث رئيس عربي يأتي ذكره في محاكم دولية، احدهم احتلت بلاده، واقتيد لحبل المشنقة واعدم، وهو الرئيس العراقي السابق صدام حسين، مع كل الاختلافات التي قد تكون مع صدام، لكن اعدم بقرار امريكي، وليس بقانون وعدالة حقيقية.

الرئيس القذافي انقذ نفسه في اللحظات الاخيرة، على خلفية لوكيربي، وجاء الانقاذ بجهود عربية، وتحركات من الاصدقاء، ولولا ذلك لربما اليوم يواجه نفس المصير، او اكثر، واليوم الرئيس عمر حسن البشير، والسؤال : الدور القادم على من من الرؤساء العرب؟

تذكرت هنا كلمة الرئيس القذافي في افتتاح القمة العربية في دمشق العام الماضي، عندما خاطب الزعماء والرؤساء العرب الموجودين بالقاعة محذرا إياهم بما حصل لصدام حسين:” الدور قادم عليكم”.

نعم الشعوب العربية قد تختلف مع انظمتها، ومع رؤسائها، لكن من المؤكد انها لم و لن ترضى ان يفعل بهم في ما تسمى بـ “محاكم” عالمية، فهؤلاء الرؤساء يمثلون رموزا للشعوب، نختلف معهم فيما بيننا نعم، لكن ان تتم إهانة هؤلاء الرؤساء فان الامر لن يكون مقبولا، وربما التظاهرات التي خرجت بالسودان تندد بقرار محكمة الجنايات، وتعلن تأييدها للبشير، خير شاهد على رفض الشعوب العربية التلاعب برموزها .

لقد شاهدت في شوارع الخرطوم على مدار يومين ـ الاربعاء والخميس ـ كيف تدافع الناس، لقد خرجوا في مسيرات حاشدة تعلن ولاءها وتأييدها للرئيس البشير، في صورة ربما لم يشهدها الشارع السوداني منذ عقود، بل ان هذه الازمة قدمت للرئيس البشير “خدمة ” لم يكن يتوقعها، بل لو دفع الملايين، وانشأ آلة اعلامية هائلة، وامتلك مؤسسات اعلامية تفوق امبراطور الاعلام اليهودي روبرت مردوخ (استرالي الأصل)، من اجل حشد تأييد له لما استطاع ان يحصل على نصف ما يحظى به اليوم، بفضل محكمة الجنايات الدولية، وبفضل اوكامبو، الذي يفترض على البشير ـ لو كنت مكانه ـ ان يتوجه الى اوكامبو بالشكر الجزيل على هذه الخدمة العظيمة.

ليس هذا فقط، بل ان قرار هذه المحكمة اعاد لثورة الانقاذ ـ التي ستحتفل في يونيو المقبل بالذكرى العشرين ـ عنفوانها وحيوتها من جديد، بعد ان بدأ يتلاشى نوعا ما، فبفضل هذا القرار اعتقد ان هذه الثورة ليست بحاجة اليوم الى قوة دفع الا بعد عشر سنوات قادمة.

وللتذكير فقط فان عمر البشير يعد اطول رئيس حكم السودان، فقد مضى عليه نحو 20 عاما في الحكم، وهي مدة لم يسبق ان امضاها رئيس في الحكم بالسودان.

لقد امتلأت شوارع الخرطوم والمدن الاخرى بصور البشير، في ظاهرة غير مسبوقة، وبات البشير ـ الذي تلقى خبر المحكمة وهو يقوم بتخريج دفعة جديدة من الطيارين الحربيين ـ يحظى بشعبية جارفة في مختلف الاوساط، حتى الحزبية منها.

والحق يقال ان الرجل ـ البشير ـ فيه من التواضع الشيء الكثير، حتى اولئك الذين يختلفون مع الرئيس السوداني سياسيا، فانهم لايستطيعون الطعن في ذمة هذا الرجل المالية، على الرغم من بقائه في السلطة قرابة عشرين عاما تقريبا.

لا أقول ان البشير منزه عن القصور او الخطأ، لكن الحق يقال، فلا يعقل ان تصطحب ما تسمى بالعدالة لإدانة الرموز العربية الى المحاكم، وتفعل بهم ما تشاء، فيما قضايانا العربية تداس، وفيما شعوبنا العربية والاسلامية تقصف ليل نهار من قبل اعداء خارجين، وفيما مقدساتنا تنتهك على مرآى ومسمع من العالم، الذي يدعي التحضر والديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان، …، لماذا لا يطبق القانون الدولي او ما تسمى بالعدالة الدولية الا على الشعوب والدول المستضعفة ؟ .

في الوقت الذي كانت محكمة الجنايات تعلن فيه توقيف عمر البشير، كانت اسرائيل تقتل مدنيين في غزة، اليس هذا امرا محزنا، فلماذا لم يلتفت اوكامبو الى هذه الجرائم ؟ .

بالمناسبة كان صدور تقرير محكمة الجنايات الدولية بحق البشير، مقررا في يناير الماضي، لكن الجريمة الاسرائيلية في غزة، والعدوان الغاشم على المدنيين، قد “اخجل” ـ وان كانت اصلا لا تخجل ـ المحكمة من اصدار مذكرة توقيف بحق رئيس دولة، فيما اسرائيل تواصل جرائمها، وقادتها يتمتعون بالحصانة، بل لم تجرؤ المحكمة، ولم يجرؤ اوكامبو ـ مدعي العدالة ـ ان يأتي على ذكر اسرائيل او احد من قادتها.

أنا اتفق مع القائلين ان ضعفنا وتفرقنا وتشرذمنا هو السبب في تكالب الامم علينا، وان علاج ذلك بايجاد وحدة عربية حقيقية، بعيدا عن المظاهر الخداعة، وهذا بالطبع يتطلب علاجا لكل الظواهر السلبية، والحالات المرضية الموجودة في الامة، والا فان الجميع سيتقاذفنا يمنة ويسرة، ولن بعيروا اي اهتمام لأي دولة عربية او اسلامية منفردة، فالعالم اليوم لا يحترم الا الاقوياء، اقتصاديا وسياسيا وحتى عسكريا، والا فان الدور قادم على قادة ورؤساء عرب ومسلمين في مراحل لاحقة، واذا لم يتم ذلك، فان التدخلات من قبل الاقوياء في شؤوننا الداخلية لن تتوقف، والاملاءات الخارجية ستتواصل، واليوم امام العرب فرصة للتوحد واثبات انهم على قدر المسؤولية التي حملتهم اياها شعوبهم العربية، وآن الأوان ليقول العرب لا لكل ما يتضارب مع مصالح هذه الامة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Newest
Oldest
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
0
أحب تعليقاتك وآرائك،، أكتب لي انطباعك هناx
()
x