اليوم مصر تدخل مرحلة جديدة في تاريخها، فهذا الحدث لا يمكن تجاوزه، أو النظر اليه على أنه مجرد محاكمة ضمن آلاف القضايا التي تشهدها أروقة المحاكم يوميا.
هذه المحاكمة تعيد لمصر هيبتها، ولمؤسسات الدولة مكانتها، ولتاريخ مصر العريق رونقه، وللشعب العظيم دوره.. بعدما قتل النظام طوال ثلاثين عاما أو يزيد، تلك المكانة، وذلك الدور، فماتت الحياة بالداخل، وتقلص الدور وانحسر بالخارج.
ليس هناك من هو فوق القانون في مصر بعد اليوم، هكذا يجب أن يفهم ما يدور، فاذا كان الرجل الأول الذي حكم البلاد والعباد طوال تلك العقود هو اليوم في قفص الاتهام، مدانا بعشرات التهم، في سابقة هي الأولى على مستوى العالم العربي تدار بهذه الطريقة، ويكون الرئيس مجلوبا إلى قاعة المحكمة بقرار وطني وشعبي.
العالم العربي الذي عاش حقبة من التخلف والاستبداد، وتعاقبت على العديد من الدول والشعوب بالعالم العربي أنظمة ديكتاتورية، مارست القمع والاذلال، ونهبت خيرات الأوطان، بعد أن عذبت الانسان.. آن الأوان لهذا العالم العربي وشعوبه أن ترفض الرضوخ للأنظمة القمعية والاستبدادية، وأن ترفض القبول بالأمر الواقع، الذي طالما حاول البعض من الحكام فرضه على الشعب.
نعم حكام في العالم العربي استبدوا ووصل بهم الأمر إلى القول لشعوبهم: إما أن نحكمكم أو نقتلكم!!.. لا خيارا ثالثا.. لا يمكن السماح للشعب بممارسة حقه الدستوري في اختيار الحاكم، وما يحدث اليوم في ليبيا واليمن وسوريا خير شاهد على ذلك.
هل كان يتصور حسني مبارك أن يحدث له ما يحدث له اليوم؟.. بالتأكيد لا.. بل لم يكن يخطر بباله أو ببال أحد من أبنائه وأتباعه أن يستوقفهم أحد أو يسألهم من أين لكم هذا؟ وكيف حصلتم على كل هذه الثروات؟ بل كان الأمر يمضي إلى توريث الحكم لابنه، لاستكمال طريق استضعاف مصر ومكانتها، والقضاء على دورها التاريخي ومكانتها ليس فقط على مستوى العالم العربي والإسلامي، بل على المستوى العالمي.
لم يكن لاسرائيل أن تستقوي على العرب لو كانت مصر قوية، ولم يكن للقوى العالمية أن تفرض سطوتها على العالم العربي لو كانت مصر بمكانتها ودورها التاريخي، فعندما تكون مصر قوية، يكون العالم العربي والإسلامي قويا، والعكس صحيح، والتاريخ يشهد على ذلك في أكثر من موقع، فمن أين انطلقت جحافل التحرير لانقاذ القدس من الصليبيين؟ ومن وقف أمام التتار عندما سقطت بغداد؟… إنها مصر القوية والعظيمة، وليست مصر كما أراد لها النظام السابق، الذي قزّم دورها وعطاءها وحيويتها في مختلف المحافل، وعلى جميع الأصعدة، حتى باتت تابعة بدلا من أن تكون متبوعة وقائدة.
اليوم على الجبابرة أن يتعظوا، وعلى الطغاة أن يأخذوا العبرة، وعلى المستبدين أن يتعلموا الدرس، فليس هناك ظلم دائم، وليست هناك سطوة باقية أمد الدهر، فمهما طال ليل الظلم لابد أن ينجلي، ولابد للشعوب أن تتحرك وتكسر القيود.
من كان يتوقع أن يشهد ما شهده بالأمس في قاعات المحاكم وهو يرى رئيس مصر مبارك وأبناءه، جميعهم خلف القضبان، وقبل ذلك من كان يتوقع هذا السقوط السريع والمدوي لنظام حكم بوليسي استمر أكثر من 30 عاما، وفي لحظات تهاوى.؟…
نظام لطالما مارس أبشع أساليب التعذيب، ليست الجسدية فقط، فهي ربما تعالج، ولكن هناك تعذيبا نفسيا، وتدميرا للإنسان، وإهدارا لكرامته.. وما أبشع هذا الأسلوب.
لقد تفنن النظام السابق في مصر العزيزة في صناعة تدمير الإنسان، وتفنن في خلق أساليب وطرق لاشغال الإنسان بالهوامش والتوافه على حساب كرامته ووطنه وكيانه..
اليوم أركان هذا النظام جميعهم في قفص الاتهام، جميعهم اقتيدوا إلى ساحة القضاء، لتنتصر بذلك العدالة، التي بحث عنها الشعب المصري وقدم في سبيلها الشهداء.
محاكمة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك تمثل حدثا تاريخيا من الصعب تجاوزه أو قلب صفحة التاريخ دون التوقف عنده والتمعن فيه بكثير من العبر، فقد كان بامكان هذا الرجل أن يكون في موقع آخر بعد خروجه من السلطة والحكم، معززا، مكرما، لو أحسن في سنوات حكمه، وأقام العدالة في أبناء شعبه.
الموقف الذي فيه حسني مبارك اليوم هو موقف للعبرة وأخذ الدروس، للكبار والصغار، ومن لم يقف أمام ساحة العدالة في الدنيا بفضل سلطته أو جاهه أو سلطانه، فان ذلك غير ممكن في الآخرة، في ساحة العدالة، ساحة القضاء، قاضيها هو الله عز وجل، ومن أفلت من عقاب الدنيا، فانه لن يفلت من عقاب الآخرة.
ليس فقط الزعماء يجب أن يأخذوا العبرة مما يحدث اليوم لحسني مبارك، بعد أن تخلى الجميع عنه، كبيرهم وصغيرهم، قريبهم وبعيدهم، إنما الجميع يجب أن ينظروا إلى الموقف الذي فيه هذا الرجل، بعد أن كان الآمر الناهي ليس فقط في أكبر دولة عربية، بل إن تأثيره السلبي كان ممتدا إلى الدول العربية.
هناك من يتولون المسؤولية، ومكنهم الله من ترؤس مجموعات وأفراد، على مستوى صغير كان أو كبيرا، إلا أنهم بعيدون كل البعد عن العدالة في حكم من يترأسون، وبعيدون عن الأمانة التي تقتضيها المسؤولية المنوطة بهم، معتقدين أنهم باقون في مناصبهم، وأنه غير ممكن أن يتم اكتشاف خيانة الأمانة التي قاموا بها.
“ان ربك لبالمرصاد”.. الله عزوجل يمهل ولا يهمل.. لابد أن يأتي اليوم الذي يحاسب الإنسان فيه على ما اقترفته يداه، ان كان ذلك في الدنيا، وإن تأخر الحساب فان الآخرة لا يمكن الهروب منها، أو البحث عن واسطة للافلات من الوقوف في ساحة القضاء أمام قاضي الأرض والسماء.
لن تجد وصفا أكثر بلاغة للوضع الذي فيه الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك مما جاء في القرآن الكريم قوله تعالى “يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير”.لا ينبغي لاحد ان يكون في موضع الشماتة، ولا في موضع التشفي، على الرغم من كل السلوك الذي مارسه حسني مبارك طيلة حكمه لمصر، حتى بالنسبة للذين انكووا بظلمه وطغيانه من أبناء شعبه، أو ما أفضت إليه سياساته الجائرة تجاه دول وشعوب الأمة جمعاء، وتحالفاته المذلة والمشينة مع الأعداء ضد مصالح الأمة العربية.