من جديد نجحت الدبلوماسية القطرية في إحداث اختراق نوعي من خلال إتمام صفقة الأسرى بين لبنان وجبهة النصرة، لإطلاق 16 جنديا لبنانيا مقابل 25 أسيرا بينهم 17 امرأة وأطفالهن .
بكل هدوء وبعيدا عن الضوضاء، وطوال 14 شهرا مضت كانت الوساطة القطرية تمضي قدما بناء على طلب من الأشقاء في الحكومة اللبنانية، لتولي مهام وساطة الإفراج عن الجنود الأسرى المختطفين لدى جبهة النصرة منذ أغسطس 2014 في بلدة عرسال .
استجابت قطر لهذا الطلب إيمانا منها ببذل كل ما يمكن للإفراج عن الأسرى، وقبلت هذا التحدي الجديد، لتؤكد أن الدوحة هي المنصة المثلى للحوار، وهي مفتاح السلام، لما تمتلكه من مصداقية وثقة عند جميع الأطراف، فالنجاحات المتتالية للمبادرات الإنسانية التي تحققها قطر هي ثمرة لرؤية ونهج يعطي الأولوية لحل النزاعات عبر الطرق السياسية، وبالوسائل السلمية، وإن هذه الجهود القطرية ـ كما جاء في بيان الخارجية القطرية ـ جاءت انطلاقا من إيمان دولة قطر الكامل والتام بتحقيق المبادئ الإنسانية والأخلاقية، وحرصها على حياة الأفراد وحقهم في الحرية والكرامة .
ليست هذه الوساطة الأولى في الشأن اللبناني، فهناك مبادرات ووساطات كللت بالنجاح ربما أبرزها اتفاق الدوحة الذي أخرج لبنان من نفق كاد يعصف بهذا البلد الشقيق، فاستطاعت الدوحة في 2008 أن تعيد ” الروح ” للبنان من جديد، بعد أن توقف كل شيء .. لا رئيس .. لا برلمان .. الحياة كانت معطلة، بل كان لبنان على خطوة من حرب أهلية بمعنى الكلمة، فجاء اتفاق الدوحة ليخرج هذا البلد الشقيق من هذا النفق المظلم، وتعود الحياة من جديد، ويتم انتخاب الرئيس وقانون الانتخاب والبرلمان، وتعود مؤسسات البلد للعمل، بعدما كانت معطلة .
لم تبحث قطر آنذاك عن مجد لتتحدث عنه، بل رأت أن ما قامت به يعد واجبا تجاه الأشقاء في لبنان، وأن هذا الدور الذي قامت به يمليه عليها واجبها تجاه لبنان، الذي طالما عانى الكثير شعبا ووطنا، فكان أن مثّل الدور القطري مخرجا للأزمة التي عصفت بلبنان الشقيق في 2008 .
نتذكر جيدا ما قامت به قطر في 2006 عندما اعتدت إسرائيل على لبنان، فكان الموقف القطري داعما ومساندا للأشقاء، ولم تنتظر قطر من ذلك جزاء ولا شكورا .
ليست لبنان وحدها التي طافت بها الوساطات القطرية، ولملمت جراحات غائرة، واستطاعت أن تغلق ملفات مفتوحة، عبر وساطات أمينة وصادقة، تقوم بها الدوحة بكل هدوء، بعيدا عن الضوضاء أو البحث عن الأضواء الإعلامية، فقد كان آخرها ربما الاتفاق الذي وقع قبل أيام بالدوحة بين قبيلتي الطوارق والتبو الليبيتين وإجراء مصالحة شاملة بينهما، ووقف القتال، ما يمثل انتصارا لسياسة الحوار والسلم اللذين تنتهجهما قطر لمعالجة الملفات، بعيدا عن استخدام القوة .
هذه السياسة التي أرساها سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ويسير على نهجها سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظهما الله ورعاهما، جعلت من قطر مركزا لصناعة السلام، وهو ما أكد عليه سمو الأمير المفدى في حواره مع ” سي إن إن ” الأمريكية في سبتمبر 2014 عندما قال سموه إن السياسة التي انتهجها سمو الأمير الوالد هي الأفضل فيما يتعلق بالحوار ومحاولة حل المشاكل في العالم من خلال لعب دور الوسيط .
وقد استطاعت قطر بهذه السياسة أن تفكك العديد من الأزمات الصعبة، والتي فشلت أطراف عدة في التوصل إلى حلول لها، بدءا بملفات تخص أطرافا دولية كبرى كأمريكا، وما قامت به قطر من وساطة استطاعت أن تفرج عن جنود أمريكيين في تبادل للأسرى مع طالبان، إلى أصغر دولة مساحة ربما وهي لبنان الشقيقة، التي تستشعر قطر معاناة شعبها، وتتألم لما يتألمون منه، مرورا بعد ذلك بوساطات ناجحة، وأدوار ملهمة، ومساع حميدة، حقنت الدماء، وحافظت على الممتلكات، وأسهمت في إحياء المدن والمناطق، سواء كان ذلك في السودان الشقيق أو ملف دارفور، أو إريتريا وجيبوتي وفلسطين وبين فتح وحماس، أو جنود الأمم المتحدة، أو المختطفين من الطيارين الأتراك في لبنان والرهائن الإيرانيين في سوريا .
ما يميز قطر وسياستها والأجهزة المعنية فيها، أنها تمتلك نفسا طويلا، والهدوء في التعامل مع الملف، والسرية التامة في التعاطي مع كل صغيرة وكبيرة، بعيدا عن الأضواء، ودون أن يتسرب الأمر إلى أي جهة كانت، وقبل هذا وذاك، المصداقية التي تحظى بها القيادة القطرية لدى جميع الأطراف وفي كل المحافل، والصدق في التعامل مع الجميع، وعلى مسافة واحدة، والثقة التي تحظى بها أيضا عند الجميع، دولا ومؤسسات ومنظمات وهيئات دولية، وهو ما جعل الدوحة قبلة لكل باحث عن حوار جاد، أو يسعى لحل قضية بعينها، أو يبحث عن وساطة إنسانية .
لقد انفردت قطر بقيادة سمو الأمير المفدى وتوجيهاته بإنجاز رقم قياسي، في زمن قياسي، من الوساطات الإنسانية الناجحة، لملفات معقدة، ومتداخلة، وفي مناطق ساخنة، ونزاعات إقليمية ودولية متشابكة، وهو أمر يحسب لهذه الدولة وقيادتها، التي برهنت على الدوام أنها عندما تتولى أمر وساطة ما فإنها تعمل بإخلاص، ونية صادقة، وتنجزها بكل نجاح، حتى باتت الدول والشعوب التي تضع ملفاتها بيد قطر على ثقة من أنها سوف تتوصل إلى حل، وينجز العمل بكل أمانة ودقة، ويصل الأمر إلى بر الأمان .
ولنا كلمة