بالفيديو.. وائل الدحدوح: تجرعت السم بخروجي من غزة.. وهذا سر استمراري بعد استشهاد أسرتي
الحوار مع وائل الدحدوح، هو حوار مع غزة شعباً وإعلاماً. وهو حوار استثنائي مع رجل استثنائي في مرحلة استثنائية. حوار مع قامة إعلامية صنعت علامة فارقة في تاريخ الصحافة بفعل تضحيات جسام، لا يقوى على تقديمها سواه. فقد استطاع هذا الرجل النادر في صلابته ورباطة جأشه أن يمنع الاجتياح الإسرائيلي للكلمة الحرة والرواية الصادقة، حيث أصر على الوقوف أمام الكاميرا لنقل مأساة غزة بعد استهداف أسرته، وتمكن من اسقاط الرواية الإسرائيلية المزيفة عن أبشع عملية إبادة جماعية.
وائل الدحدوح تحول إلى رمز عربي وعالمي وإلى أيقونة فلسطين، وجبل غزة الذي ظل صامداً مائة يوم، رغم استهداف أسرته ونجله واستهدافه شخصياً. لقد تحول إلى لغز حير الناس وأثار شغف السؤال لدى جميع المشاهدين: من أين جاء هذا الرجل بالصلابة ورباطة الجأش؟. وكان جوابه ببساطة: هي من عند الله الذي ربط على قلبي والهمني الرضا والصبر.
لقد رفض وائل الانسحاب من المشهد الإعلامي والانكسار أمام الاحتلال، واختار أن يقف أمام الكاميرا بعد وقت قصير من دفن أفراد من أسرته وزوجته التي يحبها كثيرا ويصفها بأنها البيت كله. وقد زادت صلابته بفعل تفاعل الناس وتعاطفهم معه، حيث يروي أن الأطفال كانوا يأتون إليه من مناطق مختلفة ليكونوا معه، ولا ينسى وائل تلك المرأة الطاعنة في السن التي حملها أولادها لتأتي إلى وائل وتشد من أزره.
وعندما يتحدث وائل الدحدوح عن غزة، يتحدث بمرارة، فما تتعرض له غزة غير مسبوق وكل الحروب السابقة كانت مجرد بروفات أمام هول هذه الحرب التي تحصد الأخضر واليابس، ولم يعد هناك مكان آمن، فما يجري يفوق الوصف والخيال وطاقة البشر على الاحتمال.
وائل الدحدوح الذي تعاطفت معه المؤسسات الإعلامية لا يخفي عتبه على المؤسسات الإعلامية التي تدعي حماية الإعلاميين وحقوق الصحفيين، فالتعاطف وحده لا يكفي في حرب استشهد فيها أكثر من 120 صحفياً خلال أربعة أشهر وهو صادم لم يحصل حتى في أعتى الحروب التي استمرت لمدة عشرين عاماً. فالمطلوب من هذه المنظمات والمؤسسات أن تقوم بحملة ضغط على إسرائيل لوقف المقتلة بحق الصحفيين.
خروج وائل من غزة لم يكن خروجاً سهلاً، فالظروف التي تستوجب الخروج قاهرة، مؤكدا أن خروجه كمن يتجرع السم، موجها رسالة إلى زملائه في غزة للاستمرار في حمل هذه الرسالة، وأداء الواجب لنقل حقيقة ما يجري في غزة، وأن يتسلحوا بالصبر والعزيمة والإرادة. أما رسالته إلى العالم فهو أن ينظر إلى ما يجري في غزة بعينين اثنتين وليس بعين واحدة.
شغف الأسئلة لا ينتهي في الحوار مع أيقونة الصحافة وجبل غزة، فالتفاصيل التي تحدث عنها كثيرة والمواقف التي أعلنها جديرة بالتمعن والاهتمام. وفي الآتي نص الحوار التي انفردت به “الشرق” كأول مؤسسة إعلامية بعد وصوله إلى الدوحة:
النص الكامل للحوار..
– نجري هذا الحوار الاستثنائي مع شخصية استثنائية، في مرحلة استثنائية، نحن اليوم مع رمز وأيقونة وجبل، ليس فقط هو الذي تعرض لمواقف صعبة وشكل مرحلة فارقة في عمله كشخص أو في مهنته، إنما في وطنه الذي يحمله، نحن اليوم مع أيقونة فلسطين، جبل غزة، الإعلامي والمواطن الذي عاش معاناة أهله وتعايش مع تلك الظروف الصعبة، فقد أسرته، أبناءه، أصدقاءه، زملاءه في عدوان صهيوني غاشم وحرب بربرية..
-الأستاذ وائل الدحدوح، ربما من عايش تلك الأحداث ليس كمن شاهدها عن بعد، لقد قمتم بأدوار عظيمة، أنتم شبكة الجزيرة بجميع طواقمها، تشكلت مرحلة جديدة في عمر الجزيرة، أثبتت أن الإعلام الحقيقي والمهني يمكن أن يشكل جيشاً كاملاً بمفردات الحروب الحالية.. كيف تركتم غزة خاصة وأن من أتى من هناك بالتأكيد له وصف آخر؟
حقيقة يصعب الحديث عن غزة، صعب أن تجد مفردات أو كلمات أو جُملا أو عبارات تشخص الواقع في غزة، لأنه ببساطة كما تحدثتم، ما حصل في غزة ولغزة، يفوق الخيال، يفوق طاقة احتمال البشر، يفوق التخيلات، هذه الحرب أشعرتنا فعلاً بأن كل الحروب السابقة كانت مجرد بروفات أو موجات تصعيد أو مناوشات محدودة جداً أمام هول ما رأينا، وصدمة ما رأينا، الناس في قطاع غزة يدفعون أثماناً باهظة إلى أبعد حد.
ربما تنصرف عدسات الكاميرات وتنشغل وتسلط على البيوت التي تهدم والشهداء والأشلاء وهذا كله أمر واقع، والناس في قطاع غزة لا يدفعون هذا الثمن فقط، لأن هناك أثمانا باهظة على مدار اللحظة، فحالة النزوح التي يعيشها الناس حالة مؤلمة جداً وصعبة ومعقدة جداً، تجعل الناس يحلمون في أبسط الأشياء، يحلمون في “خيمة”، لا نبالغ بالقول إن علية القوم في غزة يصل بهم الحد أنهم يترجون لأن توفر لهم خيمة، وهي في نهاية المطاف “خيمة” لا تقي برد الشتاء أو حر الصيف، الناس تحلم في امتلاك خيمة وكأنها قصر، ولكن في نهاية المطاف هذه الخيمة موجودة في صحراء أو في أرض جرداء، لا يوجد فراش أو طعام أو مياه، هي في مناطق ليس بها بنية تحتية أو مقدرات، ولا حتى دورة مياه أكرمكم الله، وهذه كوارث كبيرة.
هذه الحرب بكل تأكيد مختلفة على كل الأصعدة، فهي بدأت من حيث انتهت الحروب السابقة فيما يتعلق على الأقل بقضية التدمير، بمعنى أن “إسرائيل” بدأت في حرب الأبراج والبنايات المرتفعة ودمرتها، ثم بدأت في حرب المنازل ودمرتها على رؤوس ساكنيها، بغض النظر كم يحتوي هذا البيت من بشر 20، 30، 100، 120، لا وجود لحاجز أو خط أحمر، وبدأت بإغلاق المعابر وقطع الكهرباء والماء، وبالتالي أصبح قطاع غزة يعيش للمرة الأولى هذه القسوة، فالحروب السابقة نعم كانت قاسية وفتاكة، لكن كان لكل حرب ما يميزها، كانت هناك فسحة من الأمل، معبر يعمل، بعض المناطق كانت أقل خطراً من الأخرى، كانت الناس تجد بعض المناطق الآمنة للهروب إليها، لكن هذه المرة لا توجد بقعة آمنة أبداً، لا يوجد مكان آمن تلوذ به، واليوم اقتربنا من 4 أشهر على العدوان، والحرب تحصد الأخضر واليابس، وفصول المعاناة تشتد شيئاً فشيئاً، كل دقيقة، كل ساعة، كل ليلة، وكل يوم، نحن نتحدث عن فاتورة كبيرة جداً وباهظة جداً، ومعاناة تشتد على مدار اللحظة.
غزة.. شوكة للاحتلال
– هل هذه الحالة التي وصفتها من الوحشية، هل هي ناتجة عما حدث في 7 أكتوبر، أم أن الأمر كان مبيتاً وتم استغلال 7 أكتوبر لتنفيذ هذا المخطط الإجرامي وهذه الحرب التي لا تبقي أو تذر؟
يمكننا الحديث عن العاملين معاً، فمن الواضح أن غزة تشكل لـ”إسرائيل” شوكة، وبالتالي كان لديها رغبة في إنهاء هذه الشوكة وإزالتها، وكثير من القادة “الإسرائيليين” الذين تحدثوا عن أمنياتهم بغرق غزة في البحر وإزالتها وتدميرها، قبل الحرب وفي بداية الحرب، عبروا عن ذلك دون مواربة وبشكل مباشر، حتى إن بعض التصريحات تشكل في حد ذاتها جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة، وبالتالي من الواضح أن هناك نية مبيتة، لكن ما حدث في 7 أكتوبر ليس بالهين، فهو بالنسبة لإسرائيل ربما أصعب لحظة تمر بها منذ إنشاء إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، ربما هي اللحظة الأصعب في تاريخها، لذلك كانت هذه الحرب بالنسبة لـ”إسرائيل” الاستقلال الثاني، وعبروا عن ذلك في تصريحاتهم، وكان يعتبر هو استعادة الدولة من وجهة نظر الاحتلال، والعاملان اشتركا مع بعضهما، وترجمتهما إسرائيل بهذه القسوة والبربرية والهمجية في الاعتداء على غزة، لأن ما حدث في القطاع كان واضحاً في كثير من فصوله وتفاصيله يكتسي بطابع العقاب الجماعي والانتقام والحقد، فعلى سبيل المثال عندما تشاهد زمرة من جنود الاحتلال الإسرائيلي يلغمون المنازل ويفجرونها ويصورون ذلك ويهديه أحدهم لابنته في عيد ميلادها، وهم يضحكون، هذا لا يعبر عن جيش مهني، بل يعبر عن حقد، وعن جيش جاء معبأ بشكل كبير ليفرغ هذه الأحقاد في قطاع غزة، لما تمثله من رمزية وبسبب هذا الحدث.
فشل الاحتلال
– هل استطاع الكيان “الإسرائيلي” أن يحقق أهداف قادته السابقين أو الحاليين في كسر شوكة غزة من خلال هذه الجرائم؟
واقع الحال يرد على هذا السؤال، “الإسرائيليون” أعلنوا عن تحرير المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة، أين هم بعد 4 أشهر أو أكثر من 110 أيام؟ لم يستطيعوا تحرير جندي “إسرائيلي” واحد في قبضة المقاومة، هذا فشل ذريع وصفر كبير، أيضا ً على سبيل المثال إزالة حماس عن سدة الحكم أو تجريدها من قوتها، أو تدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في غزة، هل هذا تحقق؟ بالتأكيد لا، اليوم بعد أكثر من 110 أيام عندما نشاهد في شمال القطاع الذي يضم مدينة غزة ومحافظة الشمال اشتباكات تندلع مع قوات الاحتلال “الإسرائيلي” في كثير من المحاور، واستهداف للدبابات “الإسرائيلية”، وأكبر رشقة صواريخ تستهدف تل أبيب خرجت من الشمال، إذن نحن أمام فشل ذريع، على الأقل أمام الأهداف التي أعلنتها قوات الاحتلال “الإسرائيلي” وقادة الاحتلال، لم يتحقق منها شيء، ماذا بقي؟ بقي حالة الدمار والتدمير والشاملة وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها قوات الاحتلال ضد الحجر والبشر في غزة، وهذه بالتأكيد هي الورقة الأكثر إيلاماً وكلفة بالنسبة للواقع الفلسطيني، لكن لم يحقق الاحتلال أهدافه، على العكس فالمقاومة ما تزال قادرة على الصمود، ومن وجهة كل الاستراتيجيين والمراقبين والعارفين بالعلوم العسكرية، مجرد بقاء المقاومة وصمودها ومناوشتها أمام هذه الترسانة العسكرية التي يدعمها العالم، بعد أكثر من 110 أيام، إضافة إلى تحقيق عمليات تودي بحياة عشرات الجنود “الإسرائيليين”، فهذا يقترب من الإعجاز في بعض الأحيان، وهذا هو المهم بالنسبة إلى المقاومة، فأنا أعتقد أن المقاومة ترى أنه طالما هي قادرة على البقاء هذا يعتبر انتصارا كبيرا بعدما تحقق النصر في 7 أكتوبر.
صمود المواطن الفلسطيني
– على مستوى الإنسان في غزة، إلى متى سيظل صامداً أمام الحمم البركانية التي تنهال عليه من جانب الاحتلال”الإسرائيلي”، في ظل أهمية الحاضنة الشعبية للمقاومة، والتي أصبحت تتعرض للقتل والإبادة ؟ وهل ستظل روح الصمود والصلابة من جانب مواطني غزة قوية أمام كل هذا العدوان؟
لاشك أن أحد أهم أهداف القصف وحالة الدمار والتدمير هو استهداف حاضنة الفصائل والمقاومة الفلسطينية بالضغط عليها، أولاً لكي الوعي، ولم يكن كي هذا الوعي فقط لقطاع غزة، ولكنه ضد الوعي العربي والمسلم ولكل العالم، وكمحاولة لاستعادة هيبة هذا الجيش الذي ذهبت أدراج الرياح في السابع من أكتوبر.
وإذا جئنا على أرض الواقع مرة أخرى احتكمنا إليه، لوجدنا أن ما يجري على الأرض يثبت العكس، فإذا كانت هذه الحاضنة دفعت ثمناً باهظاً، وأن جيش الاحتلال يستهدفها بشكل أساسي، حيث يبيد المنازل على رؤوس ساكنيها، فإن ذلك أيضاً رسالة تستهدف كي هذا الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والمسلم والحر على مستوى العالم.
وفي نهاية المطاف، فإننا في شمال القطاع – على سبيل المثال- ورغم ارتكاب المجازر والدمار، نجد أن المواطنين رفضوا النزوح، وكذلك الحال في مدينة غزة، رغم ما يعانيه السكان هناك من عدم وجود المأكل، بل أي شيء يمكن أن يسد رمقهم، ورغم هذا كله فمازالوا قادرين على الصمود، وهذا يعتبر حالة من حالات الصمود والرفض، إذ ليس أمامهم خيارات أخرى متوفرة أمامهم، سوى الصمود.
ومن وجهة نظري الشخصية، فإن ما يحدث يفوق احتمال طاقة البشر، ولذلك فنحن حتى لا نطالب الناس بأن يكونوا على درجة واحدة من الصمود والثبات والصبر ومواجهة المخاطر، خاصة وأن هناك من فقد كل أسرته وبيته، والذي ظل يعمل عليه منذ عشرات سنينن، ثم يفقده في لحظة واحدة.
لكن كُثر من هؤلاء يخرجون من تحت الأنقاض يقولون “فدا فلسطين”، رغم أن هناك من يبدو عليه التعب الشديد والاهتزاز، وهذا بالطبع واقع البشر، لأن عدم حدوثه يعني أن هذا أمر غير طبيعي، إذ إن من الطبيعي أن نجد أناساً يتعبون ويهتزون، وربما تصدر منهم أحياناً عبارات أخرى، فالناس تريد العيش، والشعب الفلسطيني خاصة بما فيه في قطاع غزة، يحب الحياة بشكل كبير، ويحب أن يمارسها، فهو يعيش ويفرح ويحزن ويمارس حياته بكل تفاصيلها، كما هو حال كل شعوب العالم، وربما أكثر بفعل المحن المتتالية التي عاشها الشعب الفلسطيني، والتي لم تسعفه أو تمهلمه أن يحيا حياة طبيعية.
لذلك، نجد المواطن الفلسطيني ماهراً بشكل لا يتوفر ما لدى الشعوب الأخرى في صناعة الحياة، حتى في ظل الأزمات والحروب، ولنا أن نتخيل رغم كل ما يواجهه المواطن الفلطسطيني، فهو يستحضر الحياة ويعود بالذاكرة إلى الوراء، حتى وهو في خيمته، رغم كل ما يواجهه من مخاطر، حيث نجد أباً مثلاً يحتفل رمزياً بعيد ميلاد طفلته الصغيرة، حتى يواسيها ويسليها، لتقوى على مواجهة هذا الخطر الكبير، خاصة وأن صوت “الزنانة” لايغادر المكان، كما أن أصوات القصف والدبابات حاضرة على مدار الساعة، ومن حول الناس.
لذلك، فإن المواطن الفلسطيني في غزة يتشبث بأبسط الحياة، حتى يتمكن من مواجهة هذه الظروف، ويساعد من خلالها أطفاله، لأنه يدرك أنه في أي لحظة يمكن أن يشطب من الحياة ويصبح خبراً، وكأنه لم يكن قبل ذلك، لذلك يحاول على الأقل أن يخفف من خطبه، وهذا جزء يسير وبسيط من هذا الخوف، الذي يستوطن فيه ويسكنه على مدار اللحظة.
وأعتقد أن هذا الشعور أصعب من القتل والتدمير، لأنه على مدار اللحظة فإن الكبير والصغير، الرجل والمرأة، الغني والفقير، والمسؤول وغيره، جميعهم يعيشون بهذه الروح، وأنهم مستهدفون، وأنهم بعد لحظة قد يكونون غير موجودين على قيد الحياة، وهذا شعور صعب للغاية، ومع ذلك نجد الناس في الغالب الأعم يقولون “فدا فلسطين”، وهذه نفسية تستعصي على الحل، كما أنها نفسية معقدة للغاية، وتستعصي أيضاً على الفهم.
ومن خلال قناعتي الشخصية، فإن الله سبحانة وتعالى قبل أن يبلي، فإنه يدبر، كما أنه سبحانه وتعالى هو الذي يربط على القلوب ويصبر الناس ويثبتهم، وإلا فإن هذا الوضع في غزة لايمكن لأي إنسان أن يثبت خلاله، وإذا ثبت، فإنه يثبت في ملمة واحدة، وفي خطب واحد، أو في يوم واحد، أو في أسبوع واحد. ولكن على مدار أربعة أشهر، ليلاً ونهاراً، أمام هذه المعادلة، فهذا أمر صعب للغاية.
رمز الكلمة الحرة
– أمام هذه الروح، نجدك نموذجًا لكل صاحب قلم حر في وقت كانت هناك هجمة إعلامية من جانب الإعلام الغربي لتشويه الحقيقة، لذلك، فإن “إسرائيل” إذا كانت قد حاولت اجتياح غزة بالدبابات، فقد كنت أنت الصوت الحر، وأصبحت رمزًا للكلمة الحرة. لذلك نأمل تسليط الضوء على هذا التحدي الإعلامي الذي استطعت أن تقدمه كنموذج للإعلاميين في العالم؟
يصعب على الإنسان الحديث عن نفسه، ولكن بما أنها أصبحت قصة، اختزلت القصة الفلسطينية، فإن الإنسان يمكن له الحديث فقط من أجل تعميم هذا النموذج، إن صح التعبير.
وهنا، أؤكد أننا جزء من الناس، ودفعنا ضريبة، دفعها كثر غيرنا من شعبنا الفلسطيني، وربما يكون هناك تعمد في الاستهداف لشخصنا بشكل متتالي، وعلى مراحل مختلفة، وربما الناس شعرت في لحظة من اللحظات أن هذا الصحفي ربما يقوم بنوع من أنواع الدفاع عن قضيته، عندما تركوا بمفردهم، وربما تكون هذه الفكرة وذلك المغزى قد وصل للناس.
وأولاً وأخيرًا، فنحن نقوم بواجبنا وعملنا ونقدم جهدنا على أكمل وجه بقليل من الإخلاص، مدركين بأن هذا هو المتاح بالنسبة لنا للدفاع عن المساكين، وكذلك الدفاع عن كل من يتعرض لهذه الهمجية والدمار والقتل، ولذلك لم يكن أمامنا سوى هذا الصمود. وبالمناسبة نحن نقوم بهذا الواجب بأعلى درجات المهنية التي لايمكن أن تتوفر في أكثر النماذج مهنية في العالم.
وفي هذا السياق أؤكد أن عملنا كله على الهواء مباشرة، إذ ليس هناك ما نخفيه، وربما لهذا تعرضت أسرتي للاستهداف، ومن ثم استهداف المنزل وتدميره، ثم استهدافي شخصياً، ثم أخرج من الموت بأعجوبة، ويستشهد أمامي الزميل المصور سامر أبودقة، ثم استهداف ولدي البكر حمزة، وكذلك استهداف المكتب.
وفي كل مرة، وبفضل الله أولاً، يكون سبحانه وتعالى قد منحنا الصبر، ولسنا قوة خارقة، فهو الذي يمدنا بأسباب الصبر، وأعتقد أن الرضا والتسليم بقضاء الله هو كلمة السر الكبرى التي تمكننا من احتمال هذا الألم المتكرر، وهذه المعاناة، ونحن في نهاية المطاف، نؤمن بأن هذا قضاء الله وقدره، وعلينا التسليم والرضا به، مهما كانت النتائج، وهذه قناعة سابقة، والحمد لله كنا مهيأين لذلك، لإدراكنا بأننا نعمل في مهنة خطرة، وفي منطقة خطرة أيضاً، ودائما كنا نتوقع أن نكون هدفاً.
تضحيات وائل الدحدوح
تم استهداف منزله وتدميره
استشهدت زوجته وابنته الصغرى شام واستشهد ابنه محمود واستشهد حفيده آدم ثم استهدف شخصيا وخرج من الموت بأعجوبة فيما استشهد زميله المصور سامر أبودقة.
ثم استشهد ولده البكري حمزة.
يواصل الزميل وائل الدحدوح رحلة علاجه بصحبة ابنه الوحيد يحيى وأربع بنات وثلاثة أحفاد نسأل الله أن يحفظهم.
النموذج الملهم
– هذا يقودنا إلى القول بأن الاستهداف لم يكن استهدافاً لك شخصياً، بقدر ما هو استهداف لما يمثله وائل الدحدوح من رمزية ونقل للحقيقة، فضلاً عن استهداف ما يقارب من 120 صحفياً استشهدوا في عدوان واستهداف مباشر، ومع ذلك فقد كان استهدافك ممنهجاً ومخططاً بدرجات متفاوتة. والسؤال هل كان الكيان “الإسرائيلي” يسعى من خلال استهدافك إلى اغتيال الحقيقة، حتى لا تُنقل إلى العالم، لحجب جرائمه؟
بدون أدنى شك في ذلك، فالاحتلال “الإسرائيلي” واضح منذ البداية بأنه لايريد لعيون الحقيقة أن تنقل ما يحدث، ولذلك استهدفت من بين الصحفيين الفلسطنيين الذين استهدفهم الاحتلال “الاسرائيلي”، والذي لايريد لنماذج غير معهودة في عالم الصحافة أن تشكل مصدر إلهام، فهو يريد أن يشطب هذه الرمزية بالفعل ويقتلها، وألا تقوم لها قائمة، وألا تكون مصدر إلهام يمكن أن يُعمم، ليس فقط على صعيد الصحفيين الفلسطينين، ولكن بالنسبة لصحفيي العالم، لأن هذا هو الأخطر بالنسبة لهم، كما يرون.
ولعل أخطر ما يزعج “إسرائيل” هو النموذج الملهم، ولذلك فهى لا تريد له أن يحيا على الإطلاق. غير أن جزءًا كبيرًا من قوتنا وصمودنا هو هذا النموذج، فقد أدركنا أن ما نقوم به مهم لهؤلاء المساكين، ومهم كذلك للأسرة وللحركة الصحفية في قطاع غزة وخارجها، وخصوصاً بعد أول استهداف، وهو استهداف الأسرة، حيث كان الناس يعتقدون أنني سأغيب عن المشهد، بسبب هذا الظرف، الذي فقدت على إثره أفراد أسرتي، و14 شخصًا من أبناء عمومتي، خلاف المصابين، والذين كانوا في حاجة إلى رعاية وتطبيب.
وحقيقة، لم تكن زوجتي هى عماد البيت، بل كانت هى كل البيت، لغيابي عنه، سواء أثناء الحرب أو في غيرها، ولذلك فإنني مع فقدها، فقدت كل شيء. أمام كل ذلك أصبحت في حيرة من أمري، بعدما أصبح عملي في مدينة غزة، بعد رحيل كل الصحفيين عنها، غير أنني قررت أن أبقى فيها، مصطحباً أفراد أسرتي المصابين في منطقة غزة، وهى المنطقة الأخطر، وكان ذلك قراراً صعباً للغاية، غير أن الأمر لم يكن بحاجة لمزيد من الوقت والتفكير، إذ أدخلت أفراد أسرتي المصابة مستشفى الشفاء، وبعد ذلك أجريت لهم العلاج اللازم.
وأمام كل ذلك، قام الاحتلال “الإسرائيلي” بالاتصال على هاتف إحدى بناتي، وقال لها: “يا سندس عودوا إلى الجنوب”. وهنا كنت أمام خيارين، إما الجلوس مع من تبقى من الجرحى والمصابين ورعايتهم، وهذا حقهم بالطبع، وأقل من الحق الطبيعي، أو أن أعمل على إحياء الأمل في نفوس الزملاء الصحفيين والمواطنين وكذلك في نفوس العالم، وبالطبع اخترت الخيار الأخير.
وفي ضوء ذلك كله، فقد تركت أسرتي في المستشفى، وتوجهت إلى المكتب وطلبت من القناة الظهور على الهواء مباشرة، وحينها ظهرت ثابتاً بفضل الله، دون أن تغلب علىّ العاطفة، أو الانتقام الشخصي، غير أن المهنية كانت هى الغالبة على ذلك.
مصدر القوة والصبر
– وكيف تمكنت في تلك اللحظات أن تتجنب الجانب الإنساني والعاطفي، وتلك اللحظات الصعبة التي قد يمر بها الإنسان، لتظهر بكل هذه القوة، وتلك الموضوعية في نقل الأحداث. ومن أين استمديت كل هذه القوة؟
استمديت هذه القوة من الله تعالى، فقد كنت أمام تحدٍ كبير، ليس فقط بالنسبة لي، ولكن لكل الذين ينتظرونني، ولا أريد أسهب كثيراً في هذا الجانب، غير أنني أنهيه بالقول إنني توجهت إلى الله سبحانه وطلبت منه العون، فهو الذي ألهمني الصبر والثبات، لأظهر على هذا النحو، وحينها استجمعت كل قوتي ورباطة جأشي وكل خبراتي مع استحضار الذهن والعاطفة والجوانب العاطفية والإنسانية والعقائدية، وشعرت بأنني إذا بقيت مع بقية أفراد الأسرة، فإنها ستكون هزيمة بالنسبة لي، وهى الهزيمة التي أرفضها جملة وتفصيلا.
لذلك، كنت أشعر أنني أمام تحد كبير، فرضه الاحتلال”الإسرائيلي” علىّ، وعلى من يقفون خلفي، وبالتالي كان أبسط وأقوى وأبلغ رد على هذا التحدي، هو العودة إلى ممارسة عملي، مع الالتزام بالمهنية والموضوعية والهدوء والشفافية في تقديم هذه الرسالة.
وكنت أشعر بأن أسرتي دفعت ضريبة عملي مرتين، الأولى عندما كانت تضحى بوجودي، عندما كنت في وسطها وأحضانها وأقوم برسالة ورمزية الأب، والأخرى عندما استهدفت أسرتي بهذا الشكل، لذلك كان لزاماً علىّ أن أكون وفياً لأبسط حد لأسرتي، والتي ضحت من أجل استمراري عندما سفكت دماؤها، ولذلك كان لايمكن لي أن أنهزم، وقررت ألا يكون هذا نهائياً، بل دافع إضافي، وأن اكون وفياً لأسرتي بمواصلة الرسالة والهدف، وذلك بأعلى درجات المهنية، وقهر المحتل، بهذه الطريقة.
تضامن وتعاطف عالمي
– أمام هذا كله، وكما ألهمت الشعوب العربية والعالمية، هل كان يصلك حجم الدعم والتعاطف والدعاء معك ولك؟ وهل أسهم ذلك أيضاً في تقوية صمودك أكثر، والشد من أزرك لاستكمال المهمة؟
بدون أدنى شكل، بأن هذا كان أحد أشكال ما كان يصبرنا، ففي ظل الظروف التي كنا نعيشها، لم تكن هناك إمكانية للتواصل مع الناس، واستقبال هذا الحجم الكبير من التعاطف والمساندة، لعدم وجود الاتصالات ولظروف الحرب، غير أنه كانت تصلنا بعض من هذه الردود وأفعال التضامن، وإن كانت قليلة في بادئ الأمر، غير أن ذلك كان يواسينا.
ولكن مرة أخرى، أقول إن هناك شيئا خفيا عمم هذا النموذج، وهو الذي أحدث هذا التعاطف، فقد بدأنا ندرك شيئاً فشيئاً حجم التعاطف والتضامن عبر هذا النموذج بشكل ربما يذهلنا في كثير من الأحيان، في الوقت الذي لم يكن فيه لدينا ترف الوقت للتفكير فيه، لكن في نهاية المطاف، فإن كل ما فعلته هو أنني قمت بجهد بنوع من أنواع الإخلاص، وإن كان مختلفاً، وفي نهاية المطاف، لم تكن النتيجة لي. وواضح أن الله سبحانه وتعالى حبا هذه التجربة والنموذج وأوصلها إلى العالم كله ليحدث النموذج الكبير، بأن يتم تعميمه على كل أصقاع الأرض.
وربما الذي كان يشعرنا بكثير من الاستغراب أن الأطفال في عمر 7 سنوات، كانوا في ارتباط غير طبيعي مع هذا النموذج، فحينما انتقلت إلى خان يونس، وجدت بعض الناس يأتوننا من محافظة أخرى لإبلاغي بأن ابنهم يود الحضور للسلام علي. كما جاءتني امرأة طاعنة في السن للخيمة، لتعبر عن دعمها لي، وتقول “إنك فوق رؤوسنا، رغم الخطوب الكبيرة التي خاضتها، والمسافة الكبيرة التي قطعتها.
كل هذا جعلني أدرك أن الموضوع مختلف، وتجلى أيضاً مع غير الناطقين باللغة العربية حول العالم، الذين أحدث لهم هذا النموذج صدمة كبيرة للغاية، تلقيت على إثره الكثير من أشكال التعاطف والتضامن، ولذلك فالجانب الإنساني وضعنا أمام اختبار صعب للغاية، لم يكن أمامي فقط، ولكنه كان صعبًا على جميع الناس، فأكثر من كان يشاهدني كان يترقب كيفية تصرفي، غير أن الله سبحانه وتعالى أمدنا بالقوة التي مكنتنا من النجاح.
استهداف الجزيرة لاغتيال الحقيقة
– هل كان استهداف مكتب الجزيرة في غزة في إطار استهداف الصوت الحر، ومن ثم اغتيال الحقيقة، خاصة وأن الجزيرة كانت تشكل تحديًا كبيراً أمام الكيان “الإسرائيلي”؟ وهل كان هذا الاستهداف بماثبة رسالة للجزيرة بضرورة أن تختفي عن المشهد؟
بدون أدنى شكل، فقد كان الاستهداف يحمل هذه المضامين والرسائل، وإذا كان هناك استهداف عام للصحافة، فإنه كان هناك استهداف خاص لقناة الجزيرة، ولايجب ان يغيب عن بالنا ما حدث مع الزميلة شيرين أبوعاقلة، والتي استهدفت في منطقة آمنة برصاص القناص، والذي كان يعرف من هى شيرين أبوعاقلة، ولم تكن حينها في منطقة ساخنة على غرار غزة على سبيل المثال، ورغم ذلك تم استهدافها، وهى من هى، المعروفة بأنها ابنة القدس، والتي تحمل جوازا أمريكيا، ولديها الكثير من القضايا التي كانت تصعب من مهمة استهدافها، ورغم ذلك تم استهدافها.
وأذكر أن استهداف الجزيرة في هذه الحرب، لم يكن هو الاستهداف الأول بالطبع، ففي حرب عام 2014 تم استهداف المكتب، وكذلك في حرب 2021. لذلك كان تدمير المكتب هو العنوان لاستهداف الجزيرة، فضلاً عن قصة الاستهداف الشخصي، وكان ذلك رسالة بأن الجزيرة تتجاوز الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالتغطية، فعندما يتم المقارنة بين تغطية الجزيرة وبين بقية الفضائيات فإننا نكتشف الفارق الكبير، وهذا ما لايريده الاحتلال”الإسرائيلي”، وهذا أيضاً ما يزعجه كثيراً.
ولكن الجزيرة، ونحن جزء منها، نقوم بعمل مهني بحت، دون أي تهويل، كما أن كثيراً من تغطياتنا تتم على الهواء مباشرة، ودائماً أقول إننا في منطقة شديدة الوضوح بأن هناك احتلالا، وأن هناك شعبا محتلا، ونحن في منطقة ساخنة، وأينما يتم تسليط الكاميرا، فإنه يتم الحديث عما يجري، وهو شيء كبير، ولذلك لاينبغي الذهاب إلى التهويل أوالتزييف أوالتضخيم، لأن ما يحدث هو كبير في نهاية المطاف، ولا يحتاج سوى إلى المهنية والاخلاص في النقل ليصل إلى مستحقيه من المشاهدين والمتلقين في كافة أصقاع الأرض، وهذا ما نقوم به بالحرف الواحد.
ولكن يبدو أن المهنية تزعج الاحتلال”الاسرائيلي”، وتؤلب عليه الرأي العام، لأن ما يقوم به لا يمت بصلة لحرية الرأي أو للدول المتحضرة، بل ينتمي إلى الثقافات الأخرى.
الانحياز الإعلامي للرواية “الإسرائيلية”
– هذه المهنية غابت عن مؤسسات إعلامية كبرى ورأينا ان تغطيتها للحرب على غزة كشفت انحدار تلك المؤسسات الى ازدواجية المعايير خلافا لكل الشعارات المهنية التي تزعمها وحرية الصحافة التي تدعيها؟
مع الأسف هناك انحياز كبير من مؤسسات وشبكات إعلامية عالمية الى الرواية الاسرائيلية وهناك ايضا انحياز في المنصات الرقمية ووسائل التواصل. وهذا الانحياز لا يخفى على احد وليس بالجديد لكن الحرب في غزة كانت الكاشفة والفاضحة لانحياز الغرب بمؤسساته الاعلامية الى اسرائيل والوقوف معها وتعمية الحقائق التي تتعارض مع الرواية “الاسرائيلية”. لكن هناك كثيرا من القصص والوقائع ومن بينها ما حصل معي ربما جعلت شبكات التلفزة الغربية تضطر لتغيير جزء من سياستها التحريرية تجاه ما يحدث على الارض في غزة لانه في نهاية المطاف عليها ان تقتنع وتدرك انه يجب عليها الاستماع لما يجري بأذنين وليس بأذن واحدة وان تنظر بعينين وليس بعين واحدة وهذا الذي بدأ يحدث ولو بشكل جزئي لدى عدد من المؤسسات الاعلامية المشهورة.
الرواية “الإسرائيلية” تهاوت
– هل نستطيع القول الرواية “الاسرائيلية” ضربت بالفعل على الصعيد الإعلامي؟
أعتقد الى حد كبير تهاوت الرواية “الاسرائيلية” في الاعلام الغربي ولم تعد مسيطرة. نحن عشنا عقودا من الزمن تحت سيطرة الرواية الاسرائيلية على الاعلام الغربي ولكن في هذه الحرب تهاوت الرواية “الاسرائيلية” الى حد كبير واصبحنا نرى في معاقل دول الانحياز لاسرائيل مسيرات ومظاهرات ضخمة تعبيرا عن التضامن مع فلسطين. لقد سقطت الرواية “الاسرائيلية” لانتهاكها المعايير الاعلامية وأصبحت الرواية العربية هي السائدة لمصداقيتها والتزامها بالمعايير المهنية.
تدمير ممنهج للمناطق السكنية
– الاحتلال الاسرائيلي كان يدعي خلال استهدافه للاحياء السكنية ان هناك مقاومة تطلق الصواريخ، ما مدى حقيقة ما يدعيه عن وجود مقاومة في المناطق السكنية والمستشفيات ؟
على الأقل فيما نحن شهود عليه. نحن لم نشاهد على الاطلاق هذا الأمر. ما يجري تدمير مبرمج للمناطق السكنية. ومن يعرف غزة يعرف ان المناطق السكنية مكتظة جدا بالسكان ولا تستوعب وجود مراكز عسكرية للمقاومة. المقاومة الفلسطينية كانت تعد طوال عقود وسنوات لمواجهة الاحتلال والعدوان الاسرائيلي وهذا الاعداد لم يكن في الاحياء السكنية والمناطق المكتظة ولا في المستشفيات والمرافق الخدمية. هناك مناطق سكنية تم تدميرها وازيلت عن وجه الارض ولم يكن فيها اي وجود عسكري او مقاومة وعلى سبيل المثال في قلب مدينة غزة مع بداية الحرب جرى تدمير مربعين سكنيين في منطقة الرمال وهي المنطقة الارقى في قلب مدينة غزة وهذه مشهورة انه لا توجد مقرات ومساكن للمقاومة وغيرها وبالتالي تم تدميرها وهي غير مرتبطة بأي هدف عسكري أو ميداني ولم تشهد اي اطلاق صواريخ.
ولذلك اتخذت “إسرائيل” رواية وجود المقاومة لتغطي التدمير واعمالها العدوانية والاجرامية. واعتقد ان ما يحدث الان والفيديوهات التي تصورها المقاومة وتبثها للعالم عبر شاشات التلفزة توضح للعالم انهم يستخدمون بقايا المنازل ويخرجون من تحت الارض ويستهدفون الاليات الاسرائيلية. وهذا بحد ذاته رد مباشر على ادعاءات “اسرائيل”.
التضامن الإعلامي لا يكفي
– هل تلقيت أي تضامن من الكيانات والمنظمات الاعلامية العالمية التي تدعي حماية الصحفيين والدفاع عنهم ؟
في قصتي خصوصا مع هذا المسلسل من الاستهداف. كان هناك تعاطف واسع من اطياف مختلفة من دول ومؤسسات وافراد على المستويات المحلية والاقليمية والعالمية. وربما هناك لفتات كريمة ساهمت برفع المعنويات والاستمرار. لكن في نهاية المطاف نحن الصحفيين نرى ان هناك دورا يجب ان تقوم به هذه الكيانات والمنظمات ليس فقط ان تدين وترحب وتشيد عليها ان تقوم بحملة ضغط على اسرائيل حتى توقف هذه المقتلة بحق الصحفيين. 120 صحفيا قتلوا خلال اربعة اشهر. هذا الرقم كبير وصادم وغير مسبوق ولم يحصل حتى في اعتى الحروب التي استمرت عشرين عاما. كان ينبغي ان تقوم هذه الكيانات والمؤسسات بأدوار فاعلة لحماية الصحفيين باعتبار ان الصحافة مهنة انسانية نبيلة مقدسة كفلتها كل القوانين والمواثيق التي تعاهدت عليها كل الدول وعلى رأسها الدول الغربية. فأين هذه الدول من حماية الصحفي الفلسطيني والصحفي في كل مناطق النزاع وهي مهمة يجب ان تكون مكفولة. لكن للاسف ما يجري على الارض غير ذلك. ولذلك نقول ان هذه المؤسسات قادرة ان تضغط على اسرائيل لوقف هذه المقتله بحق الصحفيين.
رسالة إلى الإعلاميين في غزة
– ما هي الكلمة التي تود أن توجهها إلى زملائك الإعلاميين في غزة ؟
بعد ان خرجت من غزة يصعب الحديث ولكن هم يدركون ان خروجي كان لظرف قاهر وانا كأنني تجرعت السم عندما خرجت من غزة. ولكن كان لزاما ان اخرج. للزملاء بالتأكيد اتمنى ان يتسلحوا دائما بالقوة والعزيمة والارادة والصبر والالتزام بالمهنية التامة والاستمرار في حمل هذه الرسالة وأداء الواجب لنقل حقيقة ما يحدث على الارض وهو كبير وكبير جدا ويحتاج الى جهد الجميع.
رسالة إلى العالم
– نختتم معك هذا الحوار وانت خارج الوطن في رحلة علاجية، ما هي رسالتك الى العالم الذي يشاهد ما يجري في غزة بدون ان يحرك ساكنا ؟
أقول في هذه الرسالة بوضوح شديد ما يحدث في قطاع غزة ظلم شديد وهي مأساة انسانية بكل تفاصيلها. وعلى العالم كله أن ينظر بعينين وليس بعين إسرائيلية واحدة وأن يستمع إلى رواية المظلومين والمقهورين بأذنين وليس بأذن واحدة وهذا أبسط شيء وأبسط حق من الحقوق الإنسانية التي يجب أن يقوموا به تجاه الشعب المقهور والمظلوم والمحارب والمقاتل والمحاصر. هذا أبسط شيء نطلبه. ومن ثم عليهم أن يصوبوا بوصلة مواقفهم استنادا الى روايات حقيقية مدعمة بالصور والمشاهد الميدانية.