مشروع أمة تنهض به دولة
مهما بلغت الأحوال العربية من هموم وأزمات متلاحقة، يبقى هناك ضوء في آخر النفق وتبقى هناكشعلة أمل تنير الطريق إلى مستقبل أفضل للأمة العربية، هذه الشعلة أنارتها الدوحة اليوم ليسطعنورها أمام أجيال الحاضر والمستقبل. وكانت الشعلة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية الذيتفضل حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه،بتشريف حفل الإعلان عن اكتمال المعجم بعد 13 عاما من عمل دؤوب لنخبة من الأساتذة الكباروخبراء اللغة الذين أبحروا عميقا في جذور المصطلحات وتاريخها وتطورها.
هذا المعجم هو مشروع أمة بكل ما للكلمة من معنى، لأنه يحفظ للأمة هويتها ويستعيد أمجاد لغةالضاد بعدما ظن البعض أن لغتنا تنحسر جراء الغزو الرقمي بمصطلحاته ومفرداته التي تكادتسيطر على الجيل الجديد.
كان هذا المشروع حاجة ملحة في هذا العصر المتسارع في تطوراته على كل الصعد، ورغم إدراكأهل الأمة أهميته وحاجته ترددوا بالخوض به. ولم يسبق أن غامر أحد وسار على هذا الدرب الوعر. وحدها قطر بقيادة سمو الأمير كانت الحاضرة لتبني هذا المشروع مهما كانت الصعاب ومهما بلغتالتضحيات.
لقد حرص سمو الأمير على رعاية هذا المشروع وتبنيه وتقديم كل عوامل الدعم لنجاح المشروعواكتماله، ولذلك كان حضوره الحفل ينطوي على مدلولات كثيرة وكان لافتا حرصه على تكريم فريقعمل المعجم بدون استثناء. فالمشروع هو امتداد لسياسة قطر التي حملت هموم الأمة على عاتقهاوساهمت بكل ما من شأنه دعم نهضتها واستقرارها وازدهارها.
ولذلك أعرب سموه عن فخره بهذا الإنجاز الكبير حيث قال: نفتخر في قطر باكتمال «معجم الدوحةالتاريخي للغة العربية»، الذي يعزز بمادته الثرية تمسك شعوبنا بهويتها وانفتاحها على العصرووسائله الحديثة بكل ثقة. وهذه مناسبة لشكر كل من ساهم في هذا المنجز الحضاري التاريخيالذي نعتبر اكتماله ومراحل إنجازه مظهرا من مظاهر التكامل العربي المثمر.
إن معجم الدوحة هو إرث لكل الشعوب العربية بدون استثناء، هو أيضا حصانة وضمانة للهوية فيزمن العولمة والرقمنة وتسارع المتغيرات. وقد تعلمنا من تجارب التاريخ أن الأمم التي عزمت علىالنهضة والاستمرار بادرت إلى حماية لغتها وصون هويتها. ولنا في اليابان مثال على ذلك حيث إنهاتعرضت لهزيمة في الحرب العالمية ولحق بها الدمار لكنها نهضت ونفضت عنها غبار الحرب وتمسكتبشيئين، هويتها ولغتها، ومكنت أجيالها من توارثهما واستمراريتهما حتى أصبحت تلك الدولة نموذجاعالميا للنهضة والنجاح والازدهار.
التاريخ يؤكد دائما أن نهوض الأمم وبعثها لا يكون إلا عبر لغتها وهويتها، بل إن اليهود عملوا لبناءكيان مزعوم بعد أن سعوا لبعث لغة مندثرة «العبرية» لتكون أرضية تجمعهم.
اليهود أحيوا لغة مندثرة.. ميتة.. لا حضور لها في التاريخ أو العلم أو الحضارة.. وحولوها إلى واقعمعاش، وترجموها في معاملاتهم اليومية، وجمعوا « شُذّاذ « الآفاق عليها، بعد أن أجمعوهم فيأرض ليست لهم، اغتصبوها من أهلها، وأقاموا عليها كيانا..
بينما أصحاب لغة القرآن المحفوظ إلى يوم الدين بحفظ رب العالمين.. لغة التاريخ والحضارة والعلم.. أماتوا لغتهم، وفضلّوا عليها لغات قوم آخرين.. بل استبدلوها بلغات قوم آخرين.. فأصبحوا كالغرابالذي حاول تقليد مشية الحمامة ففشل، فحاول العودة إلى مشيته فاكتشف أنه قد نسيها، وفقدهويته، فلا هو أصبح حمامة، ولا هو عاد غرابا..
كل الأمم التي نهضت وتقدمت وبنت حضاراتها.. ارتكزت في ذلك على هويتها وقيمها ولغتها… لمتنهض أمة باستيرادها هويات ولغات قوم آخرين… فمتى نعي ذلك، ونعود إلى تاريخنا وحضارتناولغتنا… لن تكون لنا عودة ونهضة وصناعة.. إلا بالعودة إلى هويتنا وتاريخنا ولغتنا… لذلك يمثل معجمالدوحة مرتكزا اساسياً ولحظة فارقة، كونه يمثل مشروع أمة تقوم به دولة، برعاية واهتمام كبير منقيادتها الحكيمة والرشيدة، التي تعي أهمية هذا المشروع لنهضة الأمة.
من هذا المنطلق يحق للدوحة أن تزهو وتحتفي بهذا الإنجاز الثقافي والمعرفي العربي الذي يواكبالعصر الرقمي والذكاء الاصطناعي. إنه احتفاء بأكبر مشروع للغة العربية في تاريخ الأمة وعلىمستوى العالم. وسوف تكتشف أجيال الحاضر والمستقبل أهمية هذا المشروع في مسار اللغة العربيةوتاريخها ويوفر لكل طلبة العلم والباحثين مادة لغوية موثقة تمتد من أقدم نص عربي موثق حتىالعصر الراهن على مدى عشرين قرنا، ويقدم خريطة تاريخية شاملة لتطور الألفاظ ومعانيها عبرالعصور.
كثيرة هي مزايا المعجم فهو ينفرد برصد ألفاظ اللغة العربية منذ بدايات استعمالها في النقوشوالنصوص، وما طرأ عليها من تغيرات في مبانيها ومعانيها داخل سياقاتها النصية، متتبعا الخطالزمني لهذا التطور. وتعرض هذه البوابة الإلكترونية مواد المعجم، وتتيح البحث في المدونة النصية،كما تقدم عدة أنواع من الخدمات اللغوية والنصية والإحصائية.
كما أن هذا المعجم ينفرد بكونه يؤرخ لجميع ألفاظ اللغة العربية، منذ 400 سنة قبل الهجرة، وذلكبتتبع الكلمة منذ ولادتها، حتى اليوم، فضلاً عن كل ما طرأ عليها من تحولات، ما يخرجها بالتالي منالمعنى المحسوس إلى الآخر المعنوي وهذا عمل غير مسبوق، إنه إنجاز يعيد الأمجاد للغة الضادويعيد الحياة لكثير من المفردات والمصطلحات.
ولعل سعادة وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي لولوة الخاطر أجادت بوصف هذا المشروع بأنه«مشروع معرفي حضاري متكامل، يعكس فهما عميقا لدور اللغة في التاريخ وفي الحاضر،ويؤسس لقراءة علمية جديدة لمسار العربية وتطورها».
كما أن هذا الإنجاز –كما تقول سعادة السيدة لولوة الخاطر – يبعث «رسالة مفادها أن البحثالعلمي الجاد، وتوفير الموارد والمساحات للحوار الفكري، ما زال ممكنا في المنطقة، رغم التحديات». وفي ذلك عين الصواب فهذه الأمة قادرة على الابتكار وصنع الإنجاز إذا ما اقتدت بالدوحة. التيتمتلك من الإرث والدور ما يؤهلها لاحتضان مشاريع فكرية نهضوية تسهم في إعادة الاعتبارللإنسان العربي في كل مكان وزمان.
لقد سخرت دولة قطر كافة إمكاناتها لإنجاز هذا العمل، وتقديم مدونة، تضم مليارات السياقات، منذأقدم نص، حتى اليوم. كما أن الدوحة تشكر لاستقدامها خبراء اللغة العربية من جميع الدول العربيةليساهموا بعلمهم ومعارفهم وخبراتهم في هذا الإنجاز.
ويحسب للدوحة وللقائمين على المشروع نجاحهم في الربط بين التقنيات الحديثة، واللسانياتالعربية، حتى أصبح المعجم منصة كبيرة، لخدمة الباحثين في شتى بقاع الأرض، لتميزه أيضاًبمزايا أخرى عديدة، منها رصده لمقاربة الكلمة العربية مع نظيراتها في اللغات السامية، وكذلكرصده للكلمات الدخيلة عليها وهذه النقطة تضاف إلى المزايا التي ينفرد بها المعجم.
ومع تدشين هذا المشروع العملاق تعزز الدوحة مكانتها مركزا معرفيا ولغويا رائدا في المنطقة، ويؤكددورها في دعم البحث اللغوي العربي والتقنيات اللغوية الحديثة. حيث باتت بوابة المعجم، بعداكتماله، تضم رصيدا لغويا ضخما وغير مسبوق، يشمل أكثر من 300 ألف مدخل معجمي، ونحو10 آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة، إلى جانب ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلافمصدر، مما يجعله من أوسع المعاجم التاريخية العربية من حيث التغطية الزمنية والمادة العلمية.
لـله درك يا دوحة تميم ما نكاد نفرغ من حديث عن إنجاز حتى تطالعينا بإنجاز جديد وكأن التاريخالعربي تكتب صفحاته المشرقة في دوحة العرب.

