مقالات

ثقافة تقديم «الاستقالة».. متى نراها في مجتمعنا؟

وجه حضاري للمسؤول المخطئ والمقصر

فيما الحديث يتركز هذه الأيام على المعرض المهني، وما تطرحه وزارات ومؤسسات الدولة والشركات الخاصة من فرص وظيفية في قطاعات مختلفة، في وقت يؤكد فيه القائمون على المعرض أن الهدف الرئيسي ليس التوظيف بحد ذاته بقدر ما هو اتاحة الفرصة أمام الباحثين عن العمل للتعرف على الفرص الوظيفية، وإطلاعهم على سوق العمل، وربطهم باحتياجات السوق، حتى يتمكنوا من رسم مستقبلهم وفق رؤى واضحة لمتطلبات السوق، فالمعرض حسب تأكيد مسؤوليه منذ دورته الأولى أنه يتيح فرصاً تدريبية وتعليمية وابتعاثاً وتطوير قدرات، وهي أمور بالتأكيد غاية في الأهمية.

صحيح أن الوظيفة والعمل غاية كل شاب، لكن لابد قبلها أن يكون هناك تأهيل وتثقيف وتطوير للقدرات وتدريب للتمكن من دخول سوق العمل بقدرات تتوافق مع متطلبات السوق، وهو الأفضل حتى للشباب المقبل على العمل، بحيث يدخل السوق وهو اكثر تهيئة، وحتى لا يصطدم بالواقع العملي، الذي ربما لم يتعرف عليه خلال دراسته النظرية.

ليست هذه هي القضية التي أود التطرق اليها، هناك أمر آخر ربما مرتبط بصورة او بأخرى بالمعرض المهني، خاصة مع توجهات التدريب والتثقيف والتطوير، هذه القضية تتمثل بأهمية ترسيخ ثقافة الاعتذار والاستقالة في حال تعذر القدرة على تأدية العمل الموكل الى الشخص، بدلا من الاستمرار في منصب يكون وبالاً على الوطن.

ثقافة الاعتذار والاستقالة اليوم عادية جدا في المجتمعات والدول الغربية، فليس أمرا مستغرباً مثلا أن يخرج وزير ويعلن الاستقالة من منصبه لأنه لم يتمكن من إنجاز المهمة التي أتى من أجلها، او لم يستطع تنفيذ الخطط التي وضعها ضمن استراتيجية وزارته أو مؤسسته،..، وليس في هذا أي عيب او نقصان من مكانته او شأنه، فليس بالضرورة أن كل من يتولى منصبا هو أهل له، أو لديه من الامكانات والقدرات ما تؤهله للقيام بالمهام الموكلة إليه، والشخص نفسه الذي لم يستطع إنجاز هذه المهام في هذا المنصب، ليس مستبعدا ان يكون مبدعا في مجال آخر، او منصب جديد في قطاع هو أقرب اليه.

اعتقد أن هذه الثقافة مطلوب غرسها في الأجيال التي سوف تتولى مناصب قيادية في مختلف القطاعات، ولا أريد هنا ان أحمل القائمين على المعرض المهني مسؤولية ذلك بالكامل، لكن ما دام جاء الحديث عن المعرض المهني، والمفاهيم المفترض ايصالها للمترددين عليه، اعتقد ان ثقافة الاعتذار والاستقالة من المفاهيم المهمة التي يجب أن يتعاون الجميع لغرسها في الأجيال بكل شفافية ومصداقية، فلا نريد لأجيال المستقبل التمسك بالمنصب على حساب الوطن.

حادثة وقعت بعيد دورة الألعاب الآسيوية التي استضافتها الدوحة في 2006، وكثيرا ما استشهد بها، هذه الواقعة تتحدث عن وزير الرياضة التايواني الذي قدم استقالته بعد 3 ايام من انتهاء دورة الالعاب الآسيوية، لماذا، على الرغم من ان بلاده حققت عشرات الميداليات خلال الدورة؟.

وزير الرياضة التايواني أعلن قبل أن تبدأ الدورة ان البعثة التايوانية سوف تحقق ما لا يقل عن 15 ميدالية ذهبية، واكد ان الميداليات الذهبية لن تقل عنذ ذلك في الدوحة 2006، ولكن البعثة التايوانية خيبت آمال الوزير، ليس بالصورة التي ربما ذهبتم اليها، ولكن بفارق بسيط.

البعثة حققت 9 ميداليات ذهبية، و10 ميداليات فضية، و27 ميدالية برونزية، ولكن بالرغم من ذلك قدم وزير الرياضة التايواني استقالته، لأنه قطع على نفسه وعدا قبل بدء الدورة بألا تقل الميداليات الذهبية عن 15 ميدالية، فاعتبر عدم تحقيق ذلك فشلا، فاقدم على تقديم استقالته بعد 3 ايام من انتهاء دورة الالعاب الآسيوية.

اتيت بهذا المثل من دولة في قارتنا الآسيوية، بلد ناشئ، لكن ثقافة الاعتراف بالتقصير، ومن ثم التخلي عن المنصب باعتذار او استقالة امر طبيعي وعادي، فوزير الرياضة التايواني لم تخفق بعثته تماما عن تحقيق أي ميدالية، انما كان الفرق بين ما وعد به وما تحقق خلال الدورة 6 ميداليات ذهبية، ربما كانت هناك ظروف تعرض لها اللاعبون، لكنه لم ينس الوعد الذي قطعه على نفسه، ولم يبحث عن مبررات لكي يسوقها من اجل البقاء في منصبه، بل بكل شجاعة قدم استقالته.

لا يعني الاخفاق في منصب ان الشخص فاشل في كل شيء، بل ربما يكون اكثر ابداعا وتميزا في مجالات اخرى، قد لا يكون وضعه في المنصب الذي يتولى، وادى الى اخفاق وعدم التمكن من انجاز المهام الموكلة اليه، مناسبا، وبالتالي يتنحى حتى يتيح الفرصة لآخرين تحقيق ما عجز عنه بكل شجاعة.

نحن بحاجة الى ثقافة الاعتراف بالخطأ والتقصير، وهذا لا يقلل من قيمة الشخص، بل يكبر عند الآخرين، ويفرض احترامه عند الرأي العام، لذلك اعيد طرح السؤال: لماذا لا يقدم المسؤول الذي يخفق في تحقيق انجازات في القطاع الذي يتولاه، على تقديم استقالته؟ الا اذا كانت لديه قناعة بانه غير مقصر، او ان المنصب الذي يتولاه منصب خاص، ضمن شركة عائلية خاصة، فهذا امر آخر، لا يحق للرأي العام ان يسأل.

لذلك اطرح اليوم هذه القضية ثقافة الاعتراف بالخطأ والتقصير وثقافة الاستقالة لنناقشها بكل صراحة،  لكي نقدمها لابنائنا.. في البيت.. في المدرسة.. في العمل.. ان تكون لديهم الشجاعة في الاعتراف بالخطأ والاعتذار عن ذلك، وهي فرصة ايضا ان يتم ويسعى المعرض المهني الى خلق ورش عمل حقيقية تؤسس لثقافات جديدة تتعلق بحياة الشاب او الموظف عند دخوله الى معترك الحياة، ودخوله الى سوق العمل.

نريد تربية وثقافة جديدة ترسخ في عقلية شباب اليوم، وتغرس في اذهانهم، لكي تتغير السلوكيات، فنحن امام جيل من الشباب يمكن تشكيله وتكوين ثقافته في هذه المرحلة اكثر مما لو تأخرنا في ذلك الى مراحل سنية متأخرة.

هذا الجيل هو الذي سيتولى المناصب القيادية، وسيكون صانع قرار في المستقبل، وبالتالي يجب ان نقدم له هذه الثقافة، وانه ليس عيبا او انتقاصا من قدره ومكانته اذا ما تقدم باستقالته من منصبه في حال عجز عن تحقيق ما وعد به، او لم يتمكن من ترجمة الخطط التطويرية على ارض الواقع، او لم ينجز مهام ومشاريع اوكلت اليه….

كلمة اخيرة:

الحفاظ على المال العام مسؤوليتي.. ومسؤوليتك.. ومسؤولية الجميع، ولا ينبغي تحت أي ظرف كان التخلي عن هذه المسؤولية، او السماح لأي طرف ان يمس حقوق الدولة والمجتمع، او يقترب منها، شرعا وعرفا واخلاقا وقيما ومبادئ وقانونا.. كلها تجرم ذلك…

ولكن في نفس الوقت لابد على الجهات الرقابية تحت أي مسمى ان تعمل جاهدة في سبيل الحفاظ على المال العام، ومحاسبة كل المقصرين، وفرض رقابة صارمة وجدية على مختلف الانشطة والمشاريع التي تنفذ، خاصة اننا مقبلون على مزيد من المشاريع الكبرى، التي ستنقل قطر، الدولة والمجتمع، الى مرحلة جديدة، وستكون نقلة نوعية، مما يتطلب رقابة ومحاسبة، وعدم التفريط في حق الدولة، او الاساءة لمقدراتها واستغلالها بصورة سيئة.

 

.. ولنــا كلمة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Newest
Oldest
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
0
أحب تعليقاتك وآرائك،، أكتب لي انطباعك هناx
()
x