مثلت القرارات الأميرية التي صدرت الخميس الماضي الخاصة بالهياكل التنظيمية للوزارات والمؤسسات استكمالاً لمسيرة بناء دولة المؤسسات التي تحدث عنها سمو الأمير المفدى عندما تولى مقاليد الحكم في يونيو الماضي بالتأكيد على انه سيتم الاعلان عن خطط لإعادة هيكلة الوزارات لتقليل الازدواجية، ولكي تكون جميع المجالات العامة تحت مسؤولية وزارات واضحة ومحددة، وهو المشروع الذي أشار اليه سمو الأمير الوالد في خطابه امام افتتاح دور انعقاد 41 لمجلس الشورى في نوفمبر 2012، عندما شدد سموه على ضرورة هيكلة الجهاز الاداري للدولة، اذ لابد من ازالة اوجه التعارض والازدواج بين الادارات الحكومية المختلفة، فالتعارض والازدواجية كما اشار اليها سمو الأمير الوالد يعني تبذير اموال وتكدساً وظيفياً كما يعني تعقيد المعاملات على المستثمر وعلى المواطن.
إعادة هيكلة الوزارات والمؤسسات، والقرارات التي أصدرها سمو الأمير المفدى حفظه الله، تدفع الجهاز الاداري للدولة نحو مرحلة جديدة، يواكب من خلالها التطورات محلياً واقليمياً، ويخفف من على عاتق هذا الجهاز اعباء ادارية ظلت لفترة من الزمن تعرقل مسيرته، وتحد من انطلاقته، فقد ظل مكبلاً بجوانب من الروتين والبيروقراطية والتداخل في المهام والصلاحيات بين عدد من الوزارات والمؤسسات يصل في بعض الاحيان الى مرحلة التعارض، وهو ما يحد من التحرك بفاعلية نحو تقديم الحلول لمشاكل العمل اليومي في عدد من القطاعات، والتي تخدم في نهاية المطاف المواطن والمقيم، وفي نفس الوقت القادم الى قطر خاصة المستثمرين.
من المهم جداً الوضوح في الرؤية لدى الجهاز الاداري التنفيذي للدولة، عبر اجهزتها المختلفة، فهذا الوضوح في العمل يدفع الوزارات والمؤسسات للابداع في العمل، وفي نفس الوقت تتحمل مسؤولياتها تجاه المجتمع والدولة، فليس هناك منطقة “ضبابية” في المسؤوليات والمهام بين الجهات المختلفة، ولن تتاح الفرصة امام البعض للتنصل من مسؤولياته اذا ما حصل تقصير في مجال معين بدعوى ان هذا المجال او القطاع يتقاسم الادوار فيه مع جهات اخرى، وبالتالي “لن يضيع الدم بين الوزارات والمؤسسات” ان صح التعبير.
الامر الآخر ان وجود التداخل او التعارض والتماثل في المهام والمسؤوليات يتسبب في اهدار المال العام، والقيام بأدوار متشابهة بين الجهات التي تتداخل فيما بينها المسؤوليات، وهو ما يمثل خسارة، في وقت كان يمكن استثمار هذا المال في قطاعات ومجالات اخرى تعزز من دور الدولة في تقديم خدماتها للمواطنين ولمن يقيم على ارضها الطيبة.
من المهم جداً معرفة كل ريال اين ينفق وفيما ينفق ولماذا ينفق وما هو المردود منه..، فلا يجوز في هذه المرحلة التي تعيشها الدولة ان تغيب آليات التقييم والمراجعة والمحاسبة ايضا.
صحيح ان الدولة لن تقصر في ضخ الأموال المطلوبة في اي مشروع طالما سيكون ذا مردود ايجابي ونافع للوطن والمواطن، وستبذل بسخاء طالما كانت المخرجات تدفع نحو رقي المجتمع وتقدم الدولة، وتعزز من حضورها محلياً واقليمياً ودولياً، وهو ما رأيناه في العديد من المشاريع النوعية التي تتحرك بها الدولة، ولكن في نفس الوقت فان صرف ريال واحد في غير اوجه الصرف الحقيقية، يعد تبذيرا واسرافا، يتطلب وقفه.
هذا الدور ليس فقط من مسؤولية الجهات الرقابية بالدولة فحسب، انما هو مسؤولية كل شخص بالدولة، وفي اي موقع كان، فالحفاظ على المال العام مسؤولية الجميع، ولا ينبغي التهاون في ذلك، فنحن نتحدث عن ثروة وطن وثروة اجيال قادمة، ولا يجوز التساهل في اوجه صرف ليس لها عائد بنفس الدرجة، ولا تحقق طموحات ما يرتجى منها، فلابد ان تكون المخرجات على درجة من الكفاءة تتساوى مع حجم المدخلات.
من المؤكد ان خطوة إعادة الهيكلة للوزارات والمؤسسات ستخلق جسدا اكثر رشاقة، يتحرك بديناميكية اكبر، يواكب متطلبات المرحلة بصورة افضل، فهناك مشاريع كبرى تعمل بها الدولة، خاصة المشاريع الاقتصادية والاستثمارية والرياضية والصحية والتعليمية..، وغيرها، بحاجة الى سرعة انجاز مع دقة في التنفيذ، وكفاءة في المضمون، وهذا لن يتأتى طالما كان هناك تداخل وتضارب في الادوار، وازدواجية في الاختصاصات، وتشابه في المهام.. التحديد الكامل للاختصاصات والمهام هو العنوان الكبير للمرحلة القادمة، التي تنتظرنا فيها مهام وتحديات كبرى، وهو ما يوجب علينا ان نهيئ كافة الاجهزة في القطاعين العام والخاص، ونؤسس ايضا الافراد، للتصدي لها بكل كفاءة وقدرة، وانجازها على اكمل وجه.
ولا يعني بالطبع الهيكلية الجديدة للوزارات والمؤسسات انها هي النهائية، فلربما مع التنفيذ والعمل تتضح صور اخرى، قد تتطلب التعديل في بعض الجوانب، وهذا امر طبيعي، لمجتمع تتعزز فيه دولة المؤسسات، وبالتالي هذه الهياكل ستنقل الدولة في هذه المرحلة خطوات، وستدفع نحو مزيد من الانتاجية، بعد ان رسمت صورة اكثر وضوحا في عمل كل جهة، وحددت ملامح المرحلة القادمة بدقة اكبر، بعد ان خففت اعباء بعض التداخلات في الاختصاصات، والتشابه في المهام، ووحدت عددا من الادارات المطلوبة في الوزارات والمؤسسات.
اعتقد اننا امام نقلة نوعية للجهاز الاداري بالدولة، وهو ما سينعكس ايجابا على تنفيذ المشاريع، وقبل ذلك على انجاز المعاملات المختلفة في الوزارات والمؤسسات، وستختصر هذه الهيكلة العديد من الخطوات التي كانت متبعة عند تقديم المعاملات لحين انهائها، مرورا في مراحل الانجاز، وستسهل الاجراءات امام الجمهور بشكل كبير.
هناك تفاؤل كبير في إعادة تنظيم اجهزة الدولة، وثقة بأن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة تعزيز المكاسب التي تحققت طوال السنوات الماضية، والانطلاق نحو آفاق ارحب من الانجازات التي تتطلع لها الدولة، ويتطلع لها المواطنون، وينتظرها الوطن.
لقد أكد سمو الامير المفدى حفظه الله ان “قطر باتت اليوم دولة مؤسسات، وعلى كل وزارة ومؤسسة وهيئة ان تقوم بدورها بموجب القانون بغض النظر عن الشخص الذي يديرها..”.
وبعيداً عن توقعات ترشيحات الاسماء لتولي المناصب الشاغرة، خاصة منصب الوكيل والوكلاء المساعدين في عدد من الوزارات، فاننا مقبلون على مرحلة عمل وانجاز، ستكون الكفاءة من الكوادر الوطنية هي المطلب في كل وزارة ومؤسسة، وستحظى بالتأكيد كما كانت بالاولوية في التعيين والاختيار، وهي مسؤولية بالدرجة الاولى، تكليف قبل ان تكون تشريفا.
جميعنا مطالبون ببذل المزيد من الجهد والعطاء، فالتحديات كبيرة وكثيرة، والمجتمعات والدول والامم التي تريد ان يكون لها موقع الصدارة تقبل بالتحديات، وتعيش على وقع الانجاز.. وقطر اثبتت على الدوام انها اهل للتحديات.. لذلك فنحن مستبشرون ان مرحلة جديدة من العطاء والبناء قد بدأت.
.. ولنــا كلمة