إغلاق مكتب «الجزيرة» ليس حلا لـ «التأزيم» بالكويت
لا نقبل أن تتحول واحة الحريات إلى ساحة للتناحر
لو حدثت خطوة إغلاق مكتب “الجزيرة” أو منع مراسليها، في أي عاصمة عربية لربما كان الأمر مفهوماً في كثير من جوانبه، لكن أن يحدث ذلك في الكويت، التي عرفت خلال عقود من الزمن بأنها راعية للحريات الإعلامية، وتتمتع بانفتاح كبير، وتتقبل الرأي الآخر بكل رحابة صدر.. فإن هذا هو المستغرب، ويمثل باعتقادي انتكاسة للحريات العامة، و”انقلاباً” على الإعلام الحر، وسعياً “لتكبيل” وسائل الإعلام غير المنضوية تحت “لواء” الحكومة، والساعية لنقل المشهد بكل جوانبه، سواء ما يخص الحكومة أم الأطراف المعارضة لها.. أيا كان عددهم أو نسبتهم، لأنهم في النهاية موجودون تحت قبة مجلس الأمة.
أتساءل هل قامت “الجزيرة” بمصادرة الرأي الرسمي من برامجها خلال تغطيتها للأحداث الأخيرة في الكويت الشقيقة؟.
نحن نعرف كيف تحرص “الجزيرة” على الاتصال بجميع الأطراف في أي أزمة كانت، أو لدى تغطيتها لأي حدث، ولم يسبق لهذه القناة أن انحازت لطرف دون الآخر، إلا انحيازها للحقوق العربية، والدفاع عنها، وإتاحة الفرصة أمام الشعوب العربية، التي لا تملك منبراً للتعبير عن آرائها بكل حرية وشفافية.. لماذا لم تقارع الحكومة الكويتية الحجة بالحجة مع معارضيها، والدفاع عن سياستها وخطواتها المتخذة من خلال الحوار والرأي، بدلاً من اتخاذ خطوات لا تليق أبداً بدولة مثل الكويت، التي ظلت تمثل واحة للحريات طوال العقود الماضية؟.
دول الخليج عرفت الديمقراطية من خلال الكويت الشقيقة منذ ستينيات القرن الماضي، وظلت التجربة الكويتية مرجعاً لكثير من الدول الخليجية والعربية، وبات الكثير من أبناء الخليج يتطلعون إلى التجربة الكويتية، ويعتبرونها نموذجاً يمكن أن تسري على بقية الدول الخليجية، لكن في الوضع الراهن فإن دول الخليج وشعوبها باتت تتوجس خيفة من هذه التجربة، التي تكاد تدخل نفقاً “مظلماً” على الصعيد الديمقراطي، في ظل غياب الحوار أو على أقل تقدير في ظل ضبابية العلاقة بين المؤسسة الحكومية وبين عدد من أعضاء مجلس الأمة، وهو أمر لا نريده للأشقاء في الكويت العزيزة، الذين يهمنا جداً ما يحدث هناك، ولا نرضى أبداً أن تتعرض لأي أذى، أو اضطراب في العلاقات الداخلية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو ما سيؤثر سلباً على التنمية داخل هذا البلد الخليجي الشقيق، وهو ما حدث بالفعل خلال السنوات القليلة الماضية من إعاقة خطوات التنمية في معظم القطاعات، إن لم نقل جميعها، وهو أمر نحزن له ونأسى كثيراً، لأن أي تنمية في أي دولة خليجية، يعود نفعها في نهاية المطاف لجميع الدول الخليجية وشعوبها.
لغة الحوار هي التي ينبغي أن تسود وتهيمن على العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في دولة الكويت، كما ينبغي ألا يكتب عن الكويت أنها أقدمت على إغلاق وسيلة إعلام، أو سعت إلى تكميم الأفواه، أو عمدت إلى إغلاق الأبواب، في وقت لم يعد لسياسات المنع والإغلاق جدوى، في عالم بات التواصل فيه عبر وسائل الإعلام الحديث هو الأكثر، وهو الأسلوب المنتشر بصورة أوسع، كلما ضيق الخناق على وسائل الإعلام المتعارف عليها.
إغلاق مكتب “الجزيرة” ليس الحل بالنسبة للأزمة القائمة في الكويت، وليس هو الحل لحالة “التأزيم” القائمة بين طرفي النزاع، وللاشتباك بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فـ “الجزيرة” لم تخلق هذا الاضطراب الحاصل في العلاقة بين الحكومة ومجلس الأمة، هناك مشكلة قائمة يجب على العقلاء في الكويت الشقيقة الالتفات إليها، ووضع يدهم عليها، بصورة مباشرة، وعدم البحث عن “شماعة” لإلقاء الأسباب عليها، لأن ذلك سوف يفاقم المشكلة.
الكويت عزيزة علينا، واستقرارها وأمنها هو أمن للخليج كله، ورفاهية أهلنا وأحبتنا فيها رفاهية لنا في قطر، لذلك لابد من البحث عن أرضية مشتركة بين جميع الأطراف للتوصل إلى منطلقات لحل الإشكال القائم.. فلا يجوز أن تبقى الطاقات والقدرات في الكويت معطلة لأسباب في كثير من الأحيان شخصية.
أين تكمن المشكلة..؟ يجب الإجابة على هذا السؤال بكل صراحة، وشفافية، في حوار بنّاء وموضوعي، لا يستهدف أفراداً أو كتلاً أو مؤسسات، إنما يكون هدفه البحث ـ بجدية وإخلاص ـ عن مواضع الخطأ والقصور، والمرض إن صح التعبير.. والالتفات إلى البيت الداخلي الكويتي للوقوف على ما فيه من خلافات واختلافات، بعيداً عن عقلية من المنتصر..؟ فإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن، فإن الكويت هي الخاسر الأكبر، ولا أعتقد أن أحداً من أبنائها يرضى بذلك، ونحن قبلهم لا نرضى بذلك، فالكويت بلدنا، نفرح لفرحها، ونتألم لألمها.
سياسة الإغلاق لا تزال هي المسيطرة على العقلية العربية، هروباً من البحث الحقيقي للمشكلة، وأنا أفترض أن الكويت قد تجاوزت ذلك، ولكن بخطوتها الأخيرة تضع علامات استفهام في مسيرة الحريات الإعلامية التي اشتهرت بها الكويت، ومن المؤكد أن إغلاق مكتب “الجزيرة” سيخصم من رصيدها الإيجابي في سلم الحريات.
يحز في النفس أن تنضم الكويت من جديد إلى قائمة الدول التي ما زالت سياسة الإغلاق والاستبعاد لكل من يخالفها الرأي، هي المسيطرة على توجهاتها، وسياساتها، وتعاملها مع الآخر. الكويت التي حققت في عام 2008 مركز الصدارة في قائمة الدول العربية الأكثر حرية إعلامية ـ وفق مؤشر حرية الصحافة العالمي ـ عمدت أمس إلى إغلاق مكتب قناة “الجزيرة”، بعد أن قامت الأخيرة بتغطية متوازنة للمشهد الكويتي الأخير، المتمثل بالاشتباك الحاصل بين الحكومة وعدد من نواب مجلس الأمة، وما تعرض له عدد من أولئك النواب من “ضرب” على أيدي قوات الأمن، في مشهد غير مألوف كويتياً.. وقيام “الجزيرة” باستضافة النائب مسلم البرَّاك “صوتياً” بعد أن منعت الكويت النقل الحي للحوار مع هذا النائب.. هذا العمل الإعلامي اعتبرته الكويت تدخلاً في شأنها، دفعها للإقدام على خطوة إغلاق مكتب “الجزيرة”، اعتقاداً من الحكومة الكويتية أنها بمثل هذه الخطوات يمكنها التعتيم على الأوضاع الداخلية “المتأزمة” بينها وبين مجلس الأمة، أياً كان المتسبب فيها.