الجزيرة ليست مشروعاً قطرياً.. بل هي ملك للشعوب العربية
لم تتزحزح عن سياستها التحريرية رغم كل الضغوط
1996/11/1 لم يكن هذا التاريخ يوماً عادياً في مسيرة الإعلام العربي، بل كان يوماً فارقاً، كان له ما كان فيما بعده..
إنه يوم ميلاد عملاق الإعلام العربي “الجزيرة”، التي تحتفل اليوم بإكمال عامها الـ “18”.. وهي في عنفوان قوتها، وأدائها الإعلامي المميز، دون انحراف عن نهجها أو سياستها التحريرية التي انطلقت بها في يومها الأول..
ولدت “الجزيرة” عملاقة، وانطلقت في فضائها تقاتل من أجل حق الشعوب في المعرفة، والحصول على المعلومة، ومعرفة ما يدور في محيطها بكل شفافية، وأن تقول ما تريد أن تقوله، دون خوف أو مصادرة أو تكميم أفواه…
انطلقت بشعار “الرأي.. والرأي الآخر”، وظلت ثابتة عليه، رغم كل الضغوط التي تعرضت لها القناة، وتعرضت لها الدولة المضيفة.. قطر، الدولة التي قامت هذه المبادرة النوعية على أرضها، في عالم عربي لا يؤمن إلا “بالرأي والرأي”، المتطابق مع الجهاز الرسمي للنظام، مما عرّض قطر وما زال يعرضها لحملات تشويه بكل الطرق، والسبب هذه القناة “التي صدّعت رأس قطر” ومسؤوليها.
إيمان القيادة القطرية ممثلة بصاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي لم يمض على توليه الحكم آنذاك أكثر من 16 شهراً بحق الشعوب في المعرفة والاطلاع على الحقيقة فيما يدور في العالم العربي، دفع إلى إيجاد قناة إعلامية تتمتع بمصداقية عالية، لا تنحاز إلى طيف سياسي، ولا إلى توجه معين، ولا إلى نظام أو دولة بعينها..، بل تنحاز إلى الأمة وشعوبها وقضاياها..
لقد حمل صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد صاحب فكرة تأسيس الجزيرة هذه الفكرة، وحماها، وتحمّل في سبيل تأدية رسالتها الكثير، لكنه لم يتراجع عن هذه الرسالة، لأنها منطلقة من إيمان ثابت، وقناعة راسخة، بأن الشعوب العربية من حقها أن تعرف ما يدور حولها بكل شفافية وموضوعية، دون مصادرة لهذا الحق.
وأمام صبر “أيوب”، وصمود الجبال الرواسي، ها هي الجزيرة اليوم تمثل أعظم تجربة إعلامية، بعد أن حافظت خلال مسيرتها طوال السنوات الماضية على المهنية والمصداقية في عملها الإعلامي، ولم تتزحزح عن نهجها الذي اختطته لها، فحافظت على خطها التحريري، وسياستها الإعلامية في تعاملها مع جميع الأحداث، فترتب على ذلك دفع أثمان باهظة من قبل “الجزيرة”، إن كان ذلك في إغلاق مكاتبها في عدد من الدول العربية، أو مصادرة أجهزتها، أو استهداف مقراتها بالصواريخ، أو الزج بمراسليها في السجون.. وانتهاء بسقوط شهداء من أبنائها في أكثر من موقع، وهو تأكيد على أنه لا مجال للتراجع عن هذا الخط، الذي ضحى من أجله ابناؤها، وهي اليوم أشد حرصاً على المضي فيه بعد أن قدمت الدماء، ولا يمكن أن تفرّط بدماء أبنائها التي سالت في العراق وليبيا، وهم اليوم يدفعون ثمن الدفاع عن الحرية والحقيقة في سجون مصر.
ليس صحيحاً أن قطر انحازت إلى قضايا الشعوب العربية مع ثورات الربيع في نهاية 2010، فقد سبقت ذلك بكثير، أعلنت ذلك عندما انشئت قناة “الجزيرة”، التي أتاحت للشعوب العربية التعبير عن آرائها بكل حرية وباتزان دون مصادرة، ومنحت فرصة لقطاع واسع للحديث عن آمالهم وآلامهم دون كبت أو منع، وفي نفس الوقت سعت “الجزيرة” إلى نقل الحقيقة المجردة لما يحدث في العالم العربي بكل موضوعية وشفافية، وهو أمر لا يرضي غالبية الأنظمة العربية، التي سارعت إلى الشكوى وإغلاق مكاتبها، بل ووصل الأمر الى سحب سفرائها من قطر، فلم يكن يمر يوم إلا وتجد سفيراً عربياً داخلاً وزارة الخارجية لتقديم شكوى، وآخر يحزم حقائبه مغادراً الدوحة، بعد أن استدعته دولته احتجاجاً على ما تبثه “الجزيرة”.وعلى الرغم من أن قطر ظلت على الدوام تؤكد أن ما تبثه “الجزيرة” لا يمثل السياسة القطرية، وأن هذه القناة مجرد أنها تبث من قطر، كما هو الحال مع القنوات التي تبث من الغرب، وتوجه انتقادات لاذعة لدول عربية، إلا أنها لا تجرؤ على مجرد الشكوى للدول التي تتواجد فيها تلك القنوات، وليس سحب سفرائها!.
“الجزيرة” منذ ولادتها ليست مشروعاً قطرياً، بل هي ملك للشعوب العربية، نعم قطر وقيادتها بادروا بإنشائها ودعمها ورعايتها والتكفل بها، ولكن كل ذلك خدمة للشعوب العربية، التي من حقها أن تعرف ما يدور في أوطانها بكل شفافية، فلماذا يستكثر عليها معرفة الحقيقة من مصدرها العربي، بدلاً من اللجوء إلى مصادر إعلامية غربية لمعرفة ما يدور في أوطاننا؟ ولماذا ندفع بشعوبنا للتوجه إلى إعلام غربي للتعبير عن آرائه؟ لماذا لا نوجد بيئة إعلامية نظيفة، تنطق بالحقيقة بكل مصداقية وموضوعية وشفافية؟..
من حق شعوبنا أن تعرف، وأن تعبر عن آرائها، وأن تقول ما لديها حتى وإن كانت متضاربة أو مخالفة للتوجهات الرسمية للأنظمة في بلدانها..، فلنسمح للجميع بأن يقول رأيه بحرية مسؤولة، وفضاء إعلامي منفتح، يتقبل جميع الآراء دون مصادرة..، فنحن إن فعلنا ذلك نكون قد أوجدنا مواطنين يؤمنون بالرأي والرأي الآخر، ويتقبلون الخلاف والاختلاف مع الآخر بكل رحابة صدر، حتى إذا ما تولى منصباً فإنه قد تعوّد على الاستماع للمخالفين، وتقبل آرائهم المخالفة له.. وفي نهاية الأمر فإن اختلاف الآراء ظاهرة صحية، والأصلح والأنفع هو من ينتصر.. فلماذا الخوف من ذلك؟!.
ليكن معلوما لدى الجميع، دولا وأفرادا، ليس هناك تراجع لسياسة ” الجزيرة ” وخطها التحريري، لست متحدثا باسمها لكني عن قناعة ومن خلال متابعتي أقول للذين يراهنون في ضغوطهم على إغلاق الجزيرة أو تغيير سياستها التحريرية: ابحثوا عن أمر آخر، فإنكم تضيعون الوقت في هذا المسعى، وتراهنون على ” وهم “، لقد تعرضت ” الجزيرة ” خلال مسيرتها الإعلامية لما هو أشد من هذه المرحلة، لكنها صمدت، ولو أنها قدمت تنازلا واحدا في أي بقعة كانت، لما كانت اليوم “الجزيرة “.
صمدت في جبهات ” قتالية ” دفاعا عن قضايا الأمة، سواء كان ذلك في أفغانستان أو لبنان أو فلسطين، وما غزة عنا ببعيد، فما قامت به ” الجزيرة ” من فضح إسرائيل وعدوانها الدائم ضد غزة، خاصة في عدوان 2008و2009 و2012 و2014، خير شاهد لدفاعها عن قضايا الأمة، في حين فضائيات أخرى كانت تنقل مهرجانات الرقص، وتبث أفلام ” الهوى “، كانت ” الجزيرة ” تخاطر بأبنائها على جبهات القتال لنقل الحقيقة وما يرتكب من جرائم بحق شعوبنا.
وإن كانت صمدت في تلك الجبهات، فإنها كانت أكثر صمودا أيضا في جبهات الضغط، فلم ترضخ لكل الضغوط التي مورست عليها، وكل الإجراءات التي اتخذتها أنظمة عربية بحقها، لمجرد أنها نقلت الحقيقة كما هي، دون تزييف أو تجميل لواقع مرير تعيشه شعوب عربية.
ثم جاء الربيع العربي، فاتهمت ” الجزيرة ” بأنها هي التي قامت به، وهي التي أدارته، وهي التي افتعلت ذلك، ولكن حقيقة الأمر لم تكن ” الجزيرة ” أكثر من ناقل لثورات الربيع العربي، هذه الثورات التي جاءت بعد أن طفح الكيل بشعوب ذاقت الأمرَّين، من فساد وغياب عدالة اجتماعية، وهدر للكرامة، ومصادرة للحرية..، فماذا ينتظر من شعوب عانت لعقود من هذه الممارسات، حتى إن قبلت لسنوات على مضض، وتحت ضغط ” القبضة الأمنية “، فإنها بالتأكيد لن تقبل بمثل هذه الأوضاع على الدوام، فكان الانفجار الذي دوى في أكثر من دولة عربية، قادته شعوب تلك الدول، فانحازت ” الجزيرة ” لتطلعات تلك الشعوب للعيش بكرامة، والحرية والعدالة، وهي حقوق مشروعة لكل شعوب العالم، فلماذا تحرم منها شعوبنا العربية؟!.
اتهمت ” الجزيرة ” تارة بأنها صناعة ” أمريكية “، وتارة أخرى بأنها ” إسرائيلية “، وثالثة بأنها خليط لـ ” مؤامرات ” غربية، لكنها لم تلتفت إلى كل هذه الترهات، لأنها واثقة من خطاها.. واثقة من نهجها.. واثقة من رسالتها.. واثقة من توجهاتها.. واثقة من الثوابت التي تنطلق منها…
البعض اليوم يكن عداء لـ ” الجزيرة ” أكثر من إسرائيل، بل هو في ” وئام تام ” مع إسرائيل، لكنه لا يتحمل تقريرا موضوعيا واحدا يتناول ” تخبطاته ” و” ممارساته “، وينقل حقيقة ” سياساته ” تجاه ملفات مختلفة.
والغريب أن أنظمة عربية ومن يدور في فلكها من أفراد يتحدثون عن تراجع دور ” الجزيرة “، وأنها باتت في مؤخرة الفضائيات، وبالرغم من ذلك لا يكفون من معاداتها ومحاربتها بكل ما أوتوا من قوة، فإذا كانت هي كما تقولون اتركوها تعمل، طالما تأثيرها لم يعد له وجود!.
لماذا هذه الحرب ” الشعواء ” على هذه القناة، والغريب أيضا أن من كان بالأمس يتغنى بها، ويتمنى الظهور على شاشتها، هو اليوم ينصب لها العداء لتضارب مصالحه، ولكشفها حقائق هو لا يريدها.
أقحمت ” الجزيرة ” في كل خلاف أو اختلاف مع قطر، حتى الخلاف الأخير من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين من جهة مع قطر، كان لـ ” الجزيرة ” نصيب، في وقت تعرف هذه الدول وغيرها أن ” الجزيرة ” ليست وليدة الأمس، ويعرفون سياستها التحريرية، ويعرفون أنها لا تتردد في توجيه انتقادات لاذعة لقطر قبل غيرها إذا ما كان هناك داع لذلك، وسبق أن تعرضت قطر وسياستها الخارجية لنقد على شاشة الجزيرة، سواء عبر استضافة مسؤولين قطريين أو استضافة شخصيات أخرى كالت لقطر ليس النقد الموضوعي، بل ” الشتائم ” وتم بث هذا الأمر، والأكثر من ذلك أن الكثيرين ممن كانوا يسبون قطر على شاشة ” الجزيرة ” كانوا يتحدثون بذلك وهم على الأرض القطرية، ويسكنون في فنادق الدوحة ذات الخمسة نجوم، ولا أحد من الحكومة القطرية أو مسؤوليها أوقفهم أو عاتبهم أو منعهم من المغادرة.
نحن اليوم نقف أمام صرح إعلامي عالمي اسمه ” الجزيرة “، هذه هي الحقيقة، لقد تجاوزت ” الجزيرة ” نطاقها الإقليمي، وباتت تمثل إعلاما عالميا، فبعد أن كانت قناة واحدة، هي اليوم شبكة إعلامية تتحدث أكثر من لغة، وليس هذا فقط، فقبل مجيء ” الجزيرة ” كان إعلامنا العربي متلقيا للأخبار من قبل الإعلام الغربي والأمريكي، ورأينا ذلك في الحروب التي وقعت بالمنطقة إلى ما قبل 1996، كنا نبحث عن معرفة أخبارنا من وسائل إعلام غربية وأمريكية، بعد مجيء ” الجزيرة ” أصبحنا في العالم العربي ولأول مرة مصدرا للأخبار، ينقل عنا الإعلام الغربي والأمريكي الأحداث، وينسب ذلك إلى مؤسسة إعلامية عربية هي ” الجزيرة “، ولم يسبق أن حدث ذلك من قبل.
إنني اليوم أفتخر بـ ” الجزيرة ” ليس لأني قطري، وانطلقت هذه القناة من هذا البلد، وبدعم ورعاية وتبني من قيادته، ويحق لي الافتخار بذلك، لكني أفتخر كإنسان عربي حققت له ” الجزيرة ” حلم الحصول على المعلومة بكل حرية وشفافية، وأتاحت له إبداء رأيه دون حجر عليه، ووفرت له وسيلة نقل صادقة، ونقلت له قضاياه بكل موضوعية ومصداقية.
من يطعن بـ ” الجزيرة ” فليوجد أفضل منها، فالتنافس الشريف مطلوب في عالم اليوم، دعوا ” الجزيرة ” تعمل واعملوا أنتم على إيجاد ما هو أفضل منها لكي تستقطبوا الرأي العام العربي إن كنتم صادقين في منافستها، أما السعي لكبتها أو الضغط لإغلاقها، فهذا وهم وسراب تحسبونه قريبا وهو غير موجود إلا في ” أدمغة ” الأنظمة القمعية، التي تلهث خلف هذا السراب.