«الربيع العربي» الحقيقي بدأ عام 1996 بولادة «الجزيرة»
تمثل علامة فارقة.. واحتفال اليوم هو احتفال للإعلام الحر
نعم.. طريق الجزيرة لم يكن معبداً بـ “الورود” طوال السنوات الخمس عشرة الماضية من عمرها، بل روّت هذه المدة الزمنية بالكثير من دماء أبنائها، ومعاناتهم بالاعتقال والإبعاد والإقامة الجبرية.. وتعدى ذلك إلى قصف مقراتها في أكثر من عاصمة من عواصم الحدث، عدا إغلاق مكاتبها في عواصم عربية مختلفة.
اليوم نحن لا نحتفل بقناة أمضت 15 عاماً من عمرها، اليوم نحن نحتفل بتأسيس إعلام حر، ذي مصداقية عالية، ومهنية رفيعة.. فـ “الجزيرة” ليست مجرد قناة تبث في الفضاء، كما هي الحال مع أكثر من 700 فضائية عربية يموج بها الفضاء العربي الرحب، ولكنها قناة المواطن العربي، الذي طالما عانى الخسف والنسف والعسف من أنظمة ديكتاتورية وقمعية.. منعت عنه حتى التنفس الحر، والهواء النقي، فكانت “الجزيرة” المتنفس لهذا المواطن العربي، الذي وجد فيها ضالته، التي لطالما بحث عنها.
لم يكن الإعلام العربي “إعلاماً” قبل مولد “الجزيرة” في نوفمبر 1996، بقدر ما كان ساعات بث تمجد الرئيس والنظام وتسبح بحمده ليل نهار، وما بقي من “سويعات” بث هي لترفيه لا يحترم عقل المواطن، مما أفقد الإعلام العربي مصداقيته، فما كان للمواطن العربي إلا اللجوء الى بعض قنوات خارجية يستقي من خلالها أخبار وطنه، بعد أن فقد ثقته بإعلام بلده.
جاءت “الجزيرة” لتحرك المياه الراكدة في الإعلام العربي، ولتحدث ثورة في إعلام رسمي تقليدي تجاوزه الزمن، ولتقلب المعادلة الرائجة في تلك الفترة، وهي أن الإعلام العربي مستقبِل لكل ما هو آت من الخارج، دون أن يكون مصدراً للأخبار إلى الإعلام الغربي، فمرحلة ما بعد 1996 تعد مرحلة جديدة في عمر الإعلام العربي، تمثل علامة فارقة، وتؤرخ لمرحلة غاية في الأهمية في تاريخ مسيرة الإعلام العربي، الذي كان تابعاً إلى ما قبل هذا التاريخ، ثم أصبح قائداً بعده!! بفضل “الجزيرة”، التي قدمت إعلاماً جديداً تفوّق حتى على ما هو قائم في الغرب، وفي عقر دار إمبراطورية الإعلام.. أمريكا.
الثورات العربية أو ما يعرف بـ “الربيع العربي”.. في حقيقة الأمر لم يحدث مع بداية 2011.. الثورة العربية الحقيقية حدثت بولادة “الجزيرة”، التي عملت ثورة في هذا الإعلام العربي.. وعملت ثورة لدى المشاهد العربي.. وعملت ثورة لدى الأنظمة العربية الحاكمة التي رأت في وجود “الجزيرة” الخطر الحقيقي على وجودها وبقائها، فما كان منها إلا أن أقدم الكثير من تلك الأنظمة على إغلاق مكاتب “الجزيرة”، ومنع مراسليها من العمل على أراضيها!!
“الربيع العربي” بدأ بالإعلام العربي.. قادته “الجزيرة” بكل مهنية وحرفية ومصداقية عالية، وبعد 15 عاماً انتقل هذا الربيع إلى النظام السياسي العربي، وبالتالي فإن الفضل في صحوة هذه الشعوب العربية يعود بعد الله عزّ وجل إلى “الجزيرة”، التي قادت هذا الحراك على مستوى الشعوب.
صحيح أن الشعوب في العالم العربي، وفي دول الثورات، هي التي أسقطت الأنظمة الحاكمة.. المستبدة.. وصحيح أن شرارة الثورات العربية لم يصنعها الإعلام، إنما كان مصدرها البحث عن الكرامة والحرية، إلا أن الإعلام وفي مقدمته “الجزيرة” نقلت هذه الأحداث، ويجب ألا ننسى ما أحدثته “الجزيرة” من وعي لدى هذه الشعوب، وما منحته من مساحات حرية، للحديث عن آمالها وآلامها، وتطلعها للمستقبل.. فكان هذا الوعي هو المنطلق للمطالبة بالحقوق، وكسر حاجز الخوف والرهبة، الذي لطالما سيطر على شعوب عربية.
إلى ما قبل 1996 كان المواطن العربي يتابع أخبار وطنه وإقليمه وأمته وعالمه عبر إعلام غربي غير حيادي، وكان يستقي من ذلك الإعلام كل معلوماته، صحيحها وسقيمها..
وأما ما بعد 1996 فقد تغيرت المعادلة بولادة الجزيرة.. فكان أن تابع المشاهد العربي كل الأحداث التي تلت هذا التاريخ عبر قناة عربية، ذات استقلالية كاملة، ومهنية رفيعة، ومصداقية عالية، فكان أن كسبت الرأي العام العربي، بل تجاوز ذلك الى الرأي العام العالمي، فأصبحت مرجعاً للأخبار والأحداث التي شهدتها المنطقة منذ عام 1997، والحروب التي وقعت بدءاً من أفغانستان وانتهاء بالثورات العربية، مروراً بالحرب على العراق وغزوه واحتلاله، والعدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة.. وغيرها من أحداث.. حتى تلك التي وقعت في عواصم الغرب، كما هو الحال في أحداث 11 سبتمبر 2001.
اليوم “الجزيرة” شبكة عالمية للإعلام الحر والنزيه والحيادي، فبعد أن كانت “علبة كبريت” كما وصفها الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي، فإذا بهذه الـ “علبة كبريت” تعجل بسقوطه، بل هي التي أعلنت سقوطه وزوال حكمه بعد 30 عاماً من الحكم المستبد.
احتفالية “الجزيرة” هذه ليست مقصورة على أسرتها الصغيرة، وأبنائها المنتسبين لها بشكل رسمي، أو بعقود رسمية، انما هي احتفال لكل إعلامي عربي حر، ولكل مؤسسة إعلامية نزيهة وحريصة على المصداقية والحيادية والموضوعية.. احتفال “الجزيرة” هو احتفال لنا جميعاً.. هو احتفال للإعلام الحر الجاد الفاعل..
وإذا كانت هناك من كلمة في هذه المناسبة، فهي لسمو الأمير المفدى حفظه الله ورعاه، الذي لولا دعمُه وإيمانه بضرورة إفساح المجال لإعلام حر، وذي مصداقية، لما بقيت “الجزيرة” إلى يومنا هذا، فبالرغم من كل الضغوط التي واجهتها قطر بسبب استقلالية “الجزيرة”، وحيادية ومهنية عملها، وقيام العديد من الدول بسحب سفرائها من الدوحة، وعلى الرغم من “الصداع” الذي سببته “الجزيرة” لقطر، فإن قيادة هذا البلد رفضت الرضوخ لكل تلك الضغوط، ورفضت التراجع عن نهجها في منح هذه القناة الاستقلالية الكاملة، دون التدخل في سياستها التحريرية.
فلك سيدي سمو الأمير المفدى ـ نيابة عن كل مواطن عربي حر وشريف ـ كل الشكر والتقدير.. على إطلاق هذه القناة العظيمة، في فضاء الحرية الملتزمة بالكلمة الصادقة لإحياء الحقائق والشعوب، التي تحتفل اليوم بالذكرى الـ “15”.
آخر كلمة:
بعد سقوط نظام مبارك في مصر تلقيت رسالة عبر المسج ما زلت أحتفظ بها، وهي من إعلامي خليجي، يقول فيها: الدرس من أحداث مصر: عداوة أمريكا، وروسيا، وأوروبا، والصين.. أهون من عداوة قناة الجزيرة.
الجزيرة.. 15 عاماً من العطاء والإبداع والتميز.. 15 عاماً من الرأي والرأي الآخر.. 15 عاماً من الإعلام الحر في عالم مليء بالغث والإسفاف.. 15 عاماً من إعلام يحترم عقل المشاهد العربي.. 15 عاماً من التضحية في سبيل الكلمة الحرة وفي سبيل الموضوعية والمصداقية والمهنية العالية..