قيل الكثير عن الثورة الشعبية التي قام بها أشقاؤنا في تونس الخضراء، والتي ستظل علامة فارقة في التاريخ العربي الحديث، وربما تكون مؤشرا لمرحلة جديدة في التعاطي بين الأنظمة العربية وشعوبها، المغلوبة على أمرها في الكثير من الدول.. الشعوب التي تبحث عن ” كسرة ” الخبز، وقبلها الكرامة والحرية اللتين أهدرتهما للأسف أنظمة عربية، فما كان من الشعب التونسي إلا أن انتفض ضد واقعه المرير، الذي عايشه منذ زمن سبق حكم بن علي الممتد لأكثر من 23 عاما، وكرسه بن علي وزاد عليه، ومارس قبضة حديدية على الشعب في مختلف مناحي الحياة، حتى وصل إلى خنقه، فلم يعد يستطيع التنفس.
الثورة الشعبية التونسية لم تكن مبرمجة من قبل كما هو الحال مع كثير من الثورات التي شهدها العالم، فلم يتوقع حدوثها في هذا التوقيت أحد، ولم تتول إدارتها أحزاب في الداخل، أو أطراف من الخارج، أو أفراد لهم دورهم القيادي أو الاجتماعي أو الديني…، انما جاءت ثورة من الشعب بعد أن طفح الكيل، وبلغ الظلم مبلغا فاق كل تصور، وبعد أن (بلغت السكين العظم) كما يقولون.
ربما الثورات التي شهدها العالم في أكثر من بلد حتى القريب منها، قامت بها أحزاب من الداخل، أو تولت إدارتها أطراف من الخارج، لذلك رأينا أن إدارة البلد تولتها تلك الأطراف أو الأحزاب بعد أن نجحت في الإطاحة بتلك النظم المستبدة، كما حصل في بعض دول ما يعرف بالاتحاد السوفييتي سابقا (أوكرانيا مثلا 2004 2005 )، أو الثورة التي قادها الإمام الخميني في إيران 1979.
هذا الأمر اختلف تماما في تونس، فقد انتفض الشعب بأكمله، وقاد ثورة عفوية عظيمة بفضل خطوة أقدم عليها شاب في مقتبل العمر، أحرق نفسه بعد أن ضيق عليه في رزقه المعيشي، وقوته اليومي، فلم يجد أمامه إلا إنهاء حياته بهذه الطريقة الصعبة، حيث أوقد النار في جسده، ولم يعرف أن نار جسده لن تتوقف عند لحمه أو أطراف أعضاء جسده، فما كان من هذه النار إلا أن توسعت دائرتها لتشمل مدن تونس الخضراء، لتحولها إلى بركان يغلي تحت أركان النظام، الذي سرعان ما تهاوى، ولم يصمد أكثر من أربعة أسابيع (28 يوما) تقريبا، على الرغم من كل ما كان يقال عن هذا النظام، وتحويله تونس الى ثكنة عسكرية.
الآن وقد خرج بن علي من تونس كلها، هل سيرفع “الكابوس” الذي ظل جاثما على صدر الشعب التونسي طوال أكثر من عقدين، أم أن التفافا على ثورة الشعب سيحدث، ولن تكون المرحلة المقبلة أكثر من تغيير وجوه؟.
الخوف أن تسرق هذه الثورة، ويركب الموجة من كان بالأمس ماسكا عصا غليظة يضرب بها الشعب، واذا به اليوم يحاول اظهار نفسه بالحمل الوديع، بعد ان خلع جلده، وارتدى عباءة الإصلاح، مدعيا حرصه الشديد على مصالح الشعب والوطن.
كما قلت الثورة لم تقم بها احزاب أو حركات أو أطراف من الداخل أو الخارج، وبالتالي فان الاستيلاء عليها وسرقتها وركوب موجة التغيير والاصلاح.. سيكون هاجسا لدى العديد من المدعين ومقتنصي الفرص، الذين سيبرعون في فن الخطابة لإقناع المواطن التونسي بانه الحامي لمصالحه، والمدافع عن حقوقه، لكن من المؤكد ان الشعب الذي قاد هذه الثورة، وأطاح بواحد من أكثر الرؤساء في العالم حكما بالقبضة الحديدية، لن تخدعه اصوات تتدافع من اجل الوصول الى كرسي الحكم في تونس الخضراء، ولن ينخدع باللافتات التي ترفعها بعض الأطراف للوصول والامساك بزمام الامور.
جسد الشاب محمد بوعزيزي يجب الا يذهب هباء منثورا، والثورة التي قام بها الشعب يجب الا تسرق جهارا نهارا، لذلك فان وجوها اليوم في الحكومة التونسية المشكلة هي نفسها التي ظلت طوال السنوات الماضية تطل على الشعب تدافع عن النظام السابق، وتبرر اعماله، وتتحدث عن معجزات القائد الملهم، فكيف يمكن قبول هذه الوجوه في حكومة جاءت من ثورة شعبية على نظام اتسم بالظلم والقهر والجبروت وقمع الحريات..؟!.
زرت تونس مرتين كانت آخرهما اعتقد في عام 1998 من اجل اجتماع اعلامي، ولمست من بعض الزملاء الاعلاميين التونسيين حجم الرقابة المفروضة، والقمع المسلط عليهم، والنوافذ الاعلامية المغلقة والممنوعة عنهم،..، اضافة الى الحريات العامة التي لا يمكن للشعب ان يمارسها بحرية تامة بعيدا عن اعين المخابرات، التي لا تتورع باقتياد من ترى انه لا يسير في خط السلطة، او ان هواه يخالفها، من ان تقوده الى التحقيق المصاحب بالاذلال ثم الرمي بغياهب السجون بكل بساطة.
الشعب التونسي كما هو الحال مع بقية الشعوب العربية يستحق ان يحكمه من يتمتع بالعدالة والامانة ونظافة اليدين.. ومن يضع مصلحة الشعب والوطن فوق مصالحه الشخصية واطماع ابنائه واسرته واقاربه.. ومن يعمل من اجل الوطن ويحمل هم الوطن، وليس من يحمل ثروات الوطن في حساباته المصرفية.
ثورة تونس يجب ان تصحح مسارات بعض الانظمة مع شعوبها، فليس هناك قهر دائم، وليس هناك شعب مستكين وخانع على الدوام، وليس هناك نهب دائم.. وليس هناك قبضة بوليسية دائمة.. ليس هناك شيء دائم، بل حتى الاصدقاء الذين لطالما تغاضوا عن اخطاء بن علي، ودفعوا به لقهر شعبه، والسكوت عن ممارساته القمعية..، هؤلاء الاصدقاء لماذا رفضوا استقباله.. اقربهم امريكا وفرنسا، والغرب بأكمله لماذا لم يرحب به، ورفض حتى تزويد طائرته بالوقود، واليوم يقومون بتجميد ارصدته، ومنع دخول حتى اقاربه اراضيهم؟!.
يجب على تلك الانظمة التي تحارب شعوبها ان تصحو على ثورة تونس، وان تعيد حساباتها، وتعيد قراءة الاحداث، من اجل بناء علاقة جديدة مع شعوبها.. يكفي قطيعة بين بعض الانظمة وشعوبها، آن الأوان الى مراجعة كل الملفات، فاذا ما سقط زعيم او حاكم فان اول المتبرئين منه سيكون الغرب، الذي اليوم له السمع والطاعة من قبل بعض الانظمة والزعامات العربية.
الشعوب هي الحامي الوحيد، وحائط الصد الحقيقي لأي نظام حكم كان، واذا ما تخلت الشعوب عن الانظمة فانه لن تكون لها حماية مهما استعانت بالخارج.. قد يؤخر الخارج السقوط لبعض الوقت، لكن لن يؤخر ذلك للابد أو يمنع ذلك بصورة قاطعة.. الضمانة الوحيدة للانظمة هي الشعوب، ولكن كيف نوجد هذه الضمانة اذا ما كانت العلاقة مقطوعة بين الشعب ونظامه؟.
الشعب التونسي يجب ان يكون واعيا قبل ان تسرق ثورته، وقبل ان يلتف عليها، وتذهب تضحياته سدى، وتعود للحكم وجوه تلبس اليوم اقنعة لطالما دافعت منذ ايام فقط عن النظام السابق، وبررت اعماله وافعاله، فكانت بطانة سوء للنظام السابق، فكيف تصبح بين يوم وليلة المدافع المخلص والامين عن حقوق الوطن والشعب؟