مقالات

فضيحة..!

مشاريع «مليارية» لم تصمد أمام أمطار عادية

على قدر وحجم الاستياء الشعبي الذي ظهر على خلفية العيوب ” الفاضحة ” التي كشفتها الأمطار بالأمس، كان الرضا بالتوجيهات التي أصدرها معالي الشيخ عبدالله بن ناصر آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، باحالة جميع الجهات المعنية والشركات المنفذة للمشاريع التي كشفت عيوبها الأمطار إلى التحقيق ومن ثم إلى النيابة العامة، وهو ما تم بالفعل بتحويل خمس شركات حتى الآن إلى التحقيق، وسوف تتم محاسبة الجهات المسئولة عن التقصير أو الاهمال سواء كانت حكومية أو خاصة.

هذه الخطوة تأتى ترجمة لتأكيد سمو الأمير المفدى في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى عندما شدد سموه على أنه ” لن نتسامح مع الفساد المالي أو الإداري، او استغلال المنصب العام لاغراض خاصة، أو التخلى عن المعايير المهنية لمصلحة شخصية “.

ما حدث بالأمس، والعيوب التي كشفتها أمطار تعد عادية، ولم تستمر أكثر من 150 دقيقة لا يمكن وصفها بأقل من ” الفضيحة “، فما حدث ليس انهيارا في جدران خرسانية، أو دخول مياه إلى مقرات حكومية، بل أكبر من ذلك بكثير.. إنه انهيار ثقة بين المواطنين وبين الجهات المعنية والشركات المنفذة للمشاريع، وهذا هو الأخطر.

نعم قرار رئيس مجلس الوزراء اشاع الأمل باعادة تصحيح الأمور، ومحاسبة المقصرين أيا كانت مناصبهم ودرجاتهم، وأيا كانت المؤسسات التي يديرونها أو مرجعية هذه الشركات المنفذة للمشاريع، فعلى قدر هذه المحاسبة والإجراءات المتخذة تجاه المقصرين، سنجنى ثمار ذلك في المشاريع التي تنفذ حاليا، أو تلك المستقبلية.

فلا يعقل أن مشاريع ” مليارية ” سواء كانت حكومية او خاصة ثم لا تصمد امام أمطار عادية، وهى التي استمر تشييدها سنوات، كما هو الحال بالمطار، الذي انتظرته الدولة وانتظره المجتمع سنوات، وتضاعفت الموازنة المخصصة له مرات عدة، لتصل لنحو 17 مليار دولار، وسنوات من الانتظار، ثم تكون النتيجة ما شاهدناه بالأمس.

والأمر نفسه مع مشاريع حكومية اخرى، ان كانت مدارس او مبانى حكومية، والتي تحولت إلى ” برك ” من المياه، ثم مشاريع البنى التحتية، التي هى الاخرى صرف عليها المليارات، فكانت النتيجة أن ظهرت ” عورتها ” مجددا — في هذه الأمطار.

وكذلك بالنسبة للمشاريع الخاصة التي لم يكن الكثير منها بأفضل حالا من المشاريع الحكومية، فبات الجميع — الحكومية والخاصة — في مستوى متدن من الكفاءة والجودة، وهو ما يجعلنا نتساءل: اين المشكلة؟ واين الخلل؟.

جميعنا لا يقبل أن تنزل ” قطرة ” ماء في منزله الشخصى إذا ما هطلت الأمطار، ولا يقبل خطأ بسيطا في مشروع خاص يديره، لكن هذا الحرص لا يظهر للأسف الشديد عندما ندير مشاريع حكومية تخدم المجتمع، ولا نعمل جاهدين وباخلاص كما لو كان هذا المشروع مشروعنا الشخصي، فنترك المتابعة والمراقبة لأطراف لا تعير أى اهتمام للجودة أو الكفاءة..، المهم ان نصيبها من ” كعكة ” المشروع يصلها، بل إن البعض من المسؤولين يقومون بإنشاء شركات مع أشخاص آخرين، ومن ثم ارساء مشاريع ومناقصات مليونية إذا لم تكن مليارية على تلك الشركات الخاصة به، وفي كثير من الاحيان بأوامر مباشرة، دون حياء أو خجل، في غياب ضمير حي بالطبع.

واقعة أمس يجب ألا تمر مرور الكرام، أيا كان المتسبب فيها، فالمحاسبة والعقاب يجب ان يطول كل المتسببين في هذه ” الفضيحة ” غير المقبولة، فالمليارات التي صرفت على هذه المشاريع والمبانى والبنى التحتية، اكتشفنا اليوم انها قد ” دفنت “، وذهبت أدراج الرياح.

نعم هناك مشاريع نفخر بها، وهناك جهود مبذولة من قبل العديد من الجهات، ومن قبل العديد من المسؤولين كذلك، فلا يمكن أن نغفل هذا الجانب، إلا أن مأساة  الامس أكبر من أن يُسكت عنها، فلا يمكن تبريرها تحت أى مسمى كان، ولا يمكن القبول بأى اعذار من اى جهة كانت، ويظهر ان ” البحبوحة ” المالية التي كانت عليها الدولة في سنوات مضت، والمخصصات المالية التي ضخت للوزارات والمؤسسات لتنفيذ المشاريع، استغلها البعض للاسف الشديد استغلالا سيئا، فاعتقد أنه بوجود الفوائض المالية يمكن التغطية على أى قصور في أى مشروع، بل على أى فساد في أى مشروع، ومن ثم تجاوز ذلك، والبدء بصفقة أخرى من المشاريع فيها من الفساد ما لا يقل عن سابقه.

المطلوب اليوم الضرب بيد من حديد على كل المخالفين، و” لصوص ” المشاريع، ومحاسبة كل المقصرين بمعيار واحد، واتخاذ إجراءات حقيقية مع الشركات التي تنفذ المشاريع، والاعلان عن ذلك، سواء عن الشركات المقصرة او الاجراءات التي اتخذت حيالها، وهو ما يحدث في الكثير من الدول، فإن ذلك يمثل ردعا لها ولأمثالها، ممن تسوّل له نفسه التلاعب بالمال العام، او الاستفادة من المشاريع بصورة شخصية، وحرمان كل من ثبت عليه ذلك من المشاريع، واستبعاده تماما من السوق المحلي.

البلد ورشة عمل مفتوحة، والمشاريع التي تنفذ تتجاوز 100 مليار، وهو ما يتطلب فرض رقابة مشددة، ومراجعات أولا بأول، والتأكد من جودة وكفاءة وصلاحية هذه المشاريع، بحيث لا تتكرر هذه الأخطاء، حتى لا نصحو يوما أيضا على مثل هذه ” الكوارث ” و”الفضائح ” التي تسيء إلى صورة وسمعة دولة قطر.

كما ان الطبيعة الجغرافية لدولة قطر تؤهلها لتنفيذ مشاريع بكلفة أقل، وكفاءة أعلى، مقارنة مع دول اخرى في المنطقة أو العالم، ولكن للاسف لم نجد ذلك في السنوات الماضية، بل على العكس كانت ارقام المبالغ المالية ” فلكية ” للمشاريع، التي تعد الأعلى لمثيلاتها في العالم، وفي أحيان كثيرة نفس المشروع تجده ينفذ في قطر بثلاثة أو أربعة أضعاف ما ينفذ في بلدان أخرى.

البكاء على ” اللبن ” المسكوب غير مجد، إنما المجدي هو عدم سكب ” اللبن ” مرة اخرى، وعدم تكرار هذه الأخطاء ” الكارثية “، والبدء بمرحلة جديدة من المحاسبة والمراقبة والتقييم والإجراءات الرادعة للمخالفين بكل صرامة وجدية، بعيدا عن المحسوبيات والواسطات، والتأكيد على أن مصلحة الوطن فوق الجميع، فليس هناك من هو فوق القانون، فالجميع سواسية، فإذا لم يكن للشخص أى وازع من ضمير، فان القوانين يجب ان تكون له بالمرصاد، لتوقفه عند حده، وتقطع الأيادى التي تمتد للمال العام دون وجه حق.

هذا العبث بالمال العام يجب ان يتوقف، وهذه التجاوزات التي اعتاد البعض عليها يجب ان يتم وضع حد لها، فالدولة والمجتمع ليسا على استعداد لدفع المزيد من التضحيات من أجل مصالح شخصية، ومنافع أفراد وشركات، لا يراعون دينا أو ضميرا.

إن تبعات ما حدث من أخطاء في المشاريع التي ظهرت عيوبها في أمطار الأمس كانت مكلفة لسمعة الدولة، ومكلفة في استنزاف المال العام، ومكلفة في تدمير مقدرات المجتمع..، وهو ما يجب أن يدفع بالدولة لإجراء مراجعات حقيقية، واتخاذ إجراءات رادعة وصارمة تجاه المخالفين، والضرب بيد من حديد على حاملي معاول هدم المجتمع، الذين خانوا الأمانة التي أوكلت لهم من خلال المشاريع التي يتولون الإشراف عليها أو تنفيذها.

آن الأوان لاتخاذ عقوبات مشددة، وإجراءات رادعة بحق ” لصوص ” المشاريع، كما هو الحال مع ” لصوص ” المال العام على حد سواء، فدولة القانون والمؤسسات هى التي ينشدها المجتمع، ويؤكد عليها الدستور الدائم.

 

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Newest
Oldest
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
0
أحب تعليقاتك وآرائك،، أكتب لي انطباعك هناx
()
x