كنت أتمنى أن أكتب هذا المقال، والشقيقة مصر بأفضل حال..
كنت أتمنى أن أكتب هذا المقال، والاقتصاد في مصر آخذ في الازدهار.. والدولة تعيش في أمن واستقرار.. والعمل المؤسسي الحكومي متفرع في كل مناحي الحياة.. والمؤسسات التشريعية والتنفيذية قائمة بدورها على أكمل وجه.. والقضاء “الشامخ” يعيش أبهى عصوره.. والشعب آمن على نفسه، مطمئن على رزقه، يمارس حياته بكل أريحية، متنفِّساً نفحات الحرية، محفوظة كرامته.. لكن..
بعد عامين من الانقلاب العسكري على أول رئيس مدني، في العصر الحديث، جاء بانتخابات حرة عبر صناديق الاقتراع، قاده وزير الدفاع آنذاك، الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، الذي وعد أنها مرحلة انتقالية، وأنه غير راغب بالحكم أبداً، ها هي مصر “أرض الكنانة”، تعيش أوضاعاً؛ غاية في الصعوبة، بل غاية في السوء، على كل صعيد..
انقلاب عسكري يمارس دمويته في كل يوم، أدخل مصر في نفق مظلم، ربما لم تشهده في تاريخها الحديث، خلال العقود القليلة الماضية، فالثورة التي قامت ضد حسني مبارك بسبب تفشي الفساد، وقمع الحريات، والاعتقالات، وتزوير إرادة الشعب.. اليوم في عامين فقط يمارس ما هو أبشع من ذلك بكثير..
وزير دفاع قاد انقلاباً عسكرياً، قام بتعيين من كان يفترض أنه يحرس العدالة بمنصب رئيس مؤقت، أقسم أمامه هذا الوزير، ثم تحول قائد الانقلاب إلى رئيس عبر انتخابات “صورية”، ليمسك بكل السلطات التشريعية والتنفيذية، بل والقضائية، التي باتت أداة لإيقاع الأحكام الجائرة بكل المعارضين للانقلاب، والرافضين لمسيرة القمع، التي تمارس ضد كل من لديه رأي مخالف لرأي الرئيس، بما فيهم الذين شاركوا في “مسرحية” الانقلاب؛ في الثالث من يوليو 2013، والذين قبل أن يكملوا عامين بدأ السيسي بالتخلص منهم، أفراداً.. كانوا أو الأحزاب “الديكورية” التي استخدمت خلال فترة الإعداد للانقلاب، ووضعت في مشهد التصوير خلال أيام الانقلاب، والأيام القليلة التي تلت ذلك، بدأ التخلص منها، ولفق للكثير من الأشخاص الذين رفضوا ـ فيما بعد، ممارسات النظام القمعية ـ تهم مختلقة، للزج بهم في السجون، التي اكتظت اليوم بعشرات الآلاف، فحسب منظمة العفو الدولية هناك أكثر من 41 ألف معتقل خلال العامين الماضيين، وهو ما دفع بالحكومة المصرية لبناء المزيد من السجون، في وقت تتخلص دول العالم، من هذه السجون، بينما النظام المصري يبني المزيد منها، كان يمكن أن تصرف أموال بنائها، من أجل كرامة الإنسان المصري، وتخفيف الأعباء الحياتية عنه، وتخفيض الأسعار، التي تضاعفت نحو عشر مرات، عما كانت عليه قبل الانقلاب..
اليوم مصر هذه الدولة الكبيرة، وهذا الشعب العظيم، تعيش في قبضة الرئيس الأوحد.. سلطات مطلقة بيد شخص واحد.. نظام قمعي.. تكميم للأفواه.. اعتقالات بالجملة.. أحكام إعدامات بالمئات، تصدر في جلسة لا تتجاوز مدتها 5 دقائق.. قوانين تلغي قوانين في لحظات.. مشاهد لا تراها ربما حتى في الأفلام الكوميدية للترفيه، أصبحت مبكية في المشهد المصري.
ما حدث قبل يومين في سيناء، بحق الجنود الأبرياء جريمة وإرهاب مدان ومستنكر، ونؤكد تضامننا مع الشعب المصري العزيز، وتعازينا لأهالي الجنود الذين سقطوا دون ذنب على أيدي منظمات إرهابية، ولكن في الوقت الذي نَدين فيه هذه الأعمال، فإن النظام المصري بسياساته الخرقاء، يدفع نحو تدمير الدولة المصرية، وتمزيق الشعب والمجتمع المصري، كما يدفع نحو احتراب واقتتال داخلي!! فلا يمكن القبول بالجرائم التي يرتكبها هذا النظام، بحق رافضي الانقلاب، وكل ما يعارضه ولو بالكلمة.
ما حدث في نفس يوم استشهاد الجنود، من تصفية بدم بارد لـ “13” من قيادات جماعة الإخوان المسلمين أمر مرفوض، حتى وإن كان عليها أحكام قضائية، فهل تحول القضاء المصري إلى تنفيذ أحكامه عبر تصفيات جسدية للمحكوم عليهم في الشوارع، ومقار سكنهم، بهذه الطريقة الوحشية وغير الإنسانية؟.
رأينا السيسي يجمع القضاة في “مسرح” جنازة النائب العام، الذي تدور الكثير من الشبهات على اغتياله، بتدبير رسمي، يعطيهم تعليمات، ويطالبهم بتنفيذ أجندات، فهل هذا هو القضاء “الشامخ”، الذي أصدَر خلال عامين 680 حكم إعدام، بعضها صدَر في جلسات لا تتجاوز دقائق معدودة، وهو ما لا يحدث في أبشع الأنظمة القمعية والديكتاتورية، ناهيك عن عشرات المئات من أحكام المؤبد، وأضعافها سنوات بالخمس عشرة، ما بين أعلى وأدنى منها بقليل.
أعداد الجنود الذين قتلوا خلال العامين من حكم الانقلاب، تصل لنحو 186 جندياً، وأضعافهم من الجرحى.. دماء هؤلاء برقبة النظام ـ بالدرجة الأولى ـ الذي جاء من أجل حماية الأرواح، وبرر انقلابه على الرئيس المدني المنتخب بأنه ضعيف، ولا يستطيع أن يحمي الشعب المصري، وإذا بالجرائم التي ترتكب، والارواح التي تزهق، والممارسات الديكتاتورية التي تنفذ.. أبشع من كل الذي مر بتاريخ مصر الحديث.
نحن اليوم أمام وضع غير سوي في أرض الكنانة مصر، ولا يمكن ـ تحت أي ظرف ـ القول: إن الخيار الأمني الذي ينتهجه النظام، سوف يؤدي إلى استقرار، وأمن، وازدهار وتنمية.. في مصر، ولا يمكن القبول بهذه الممارسات الديكتاتورية، الفاشية، التي تحدث، والبعض يتغاضى عنها، ويلقي باللوم في أحيان كثيرة على الضحية، التي لا حول لها ولا قوة، وينسى أو يتناسى أن السبب الرئيسي فيما يحدث اليوم في مصر، هو الانقلاب العسكري، وما تبعه من ممارسات، ومن عودة للدولة البوليسية، المخابراتية، بفسادها وقمعها، والتي ثار عليها الشعب، في واحدة من أنقى وأطهر الثورات، التي شاهدها العصر الحديث، وهي ثورة 25 يناير.
قد يقول البعض: وما دخلكم بمصر، وما يحدث فيها، اتركوا مصر للمصريين..
حديثنا الدائم عن مصر نابع من حرصنا على هذه الدولة، التي تمثل قوتها قوة للعرب، ودونها لا يمكن للعرب أن تعود لهم قوتهم، وبالتالي فإن سلامة هذه الدولة، واستعادة عافيتها، مطلب عربي، وهذا لن يتأتى إلا بسياسات عقلانية، ونظام قائم على ديمقراطية حقيقية، نابعة من خيارات الشعب.. فمصر هي العمود الفقري للأمة، وصلاحها هو صلاح لهذه الأمة، أما ما يحدث اليوم فيها، فهو يفرح أعداء أمتنا، لذلك رأينا كيف يدعم الصهاينة السياسات التي ينتهجها السيسي، في قمع الحريات، وسلب كرامة الشعب، وتدمير بنى المجتمع، وممارسة كل أساليب وأنواع القمع والديكتاتورية.. فهذه الأعمال يدعمها أعداء الأمة، الذين يشجعون السيسي للمضي بها، بل ممارسة المزيد منها.. لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر طويلاً في مصر، هناك انفجار شعبي سيحدث، وهو ما لا نأمله.. الأمل أن يسارع العقلاء في مصر، بل وفي الدول العربية، إلى لجم السيسي عن سياساته الخرقاء، والبحث عن حلول تعيد الحياة إلى مصر، بعد أن شلت في مناحيها كلها، وانتشر القمع في كل جوانبها..
الأمل أن نحتفل قريباً بمصر الجديدة.. مصر القائدة.. مصر النموذج لنظام عربي، قائم على العدل، والانفتاح، والحوار، والحريات.
.. ولنــا كلمة