لم تكن تركيا أو حزب العدالة والتنمية أو أردوغان وحده في ميدان معركة الديمقراطية مساء أمس الأول، بل إن شرفاء كثر من العالم كانوا في الميدان حاضرين وإن كانوا عن بعد.
لماذا كل هذا التعاطف، بل التأييد المطلق مع الرئيس رجب طيب أردوغان في « ليلة الكرامة « التركية، ليس من شعبه الذي زحف بالملايين إلى الميادين، بل من الشعوب العربية والإسلامية؟.
لم نعرف عن تركيا و» أردوغانها « منذ تولي حزبه حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002، إلا انحيازه إلى القضايا العربية والإسلامية بصور شتى، وما لحظة « ون منت « في منتدى دافوس 2009، حيث انتفض أردوغان مزمجرا في وجه رئيس الكيان الإسرائيلي بيريز مدافعا عن غزة، ومعريا زيف وكذب الصهاينة، وكاشفا جرائمهم في عدوانهم على غزة، إلا واحدا من مواقف رجولية عديدة.
لم نعرف عن أردوغان إلا احتضانه لملايين اللاجئين من أشقائنا السوريين وغيرهم من العرب الذين اتخذوا من تركيا ملاذا آمنا لهم، بعد أن طاردتهم أنظمة بلدانهم.
لم نعرف عن أردوغان إلا أنه أعاد للمساجد دورها، وللمآذن تكبيراتها، وللحجاب قدسيته، وللإنسان التركي كرامته، وللدولة هويتها…
لم نعرف عن أردوغان إلا أنه نقل تركيا من دولة « هامشية «، تلهث خلف الدول، وتقف عاجزة تتسول الاتحاد الأوروبي، ومدينة لصندوق النقد الدولي بـ 26 مليار دولار، إلى دولة تحتل المرتبة 16 في الاقتصاد العالمي بعد أن كانت تحتل المرتبة 111، ولم يعد عليها دولار لصندوق النقد الدولي، بل أقدمت على تقديم قرض لصندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار، وباتت تعتمد على نفسها في كل صناعاتها، بما فيها العسكرية، وأصبح دخل الفرد فيها نحو 13 ألف دولار بعد أن كان لا يتجاوز 2700 دولار خلال 10 سنوات فقط.
لم نعرف عن أردوغان إلا محتضنا أبناء الثورات العربية، الذين طاردتهم أنظمتهم القمعية، بعد نجاح الثورات المضادة، فكانت تركيا هي الملاذ الآمن لهم من المطاردات…
في سنوات عشر استطاع حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان أن يحدث نقلة نوعية قل نظيرها على مستوى العالم.. في التعليم.. الصحة.. الاقتصاد.. البنية التحتية.. القوة العسكرية.. يكفي أن نعلم أنه خلال هذه السنوات حدث الآتي: الناتج القومي لتركيا عام 2013 حوالي تريليون ومائة مليار دولار.
أردوغان قفز ببلاده قفزة مذهلة من المركز الاقتصادي 111 إلى 16 بمعدل عشر درجات سنوياً، مما يعني دخوله إلى نادي مجموعة العشرين الأقوياء الكبار في العالم.
تركيا صنعت وللمرة الأولى في عهد حكومة مدنية أول دبابة مصفحة، وأول ناقلة جوية، وأول طائرة بدون طيار، وأول غواصة، وأول قمر صناعي عسكري حديث متعدد المهام، وتتطلع في العام المقبل لصناعة أول حاملة طائرات.
أردوغان في عشر سنوات بنى 125 جامعة جديدة، و189 مدرسة و510 مستشفيات و169 ألف فصل دراسي حديث ليكون عدد الطلاب بالفصل لا يتجاوز 21 طالبا، وأصبح التأمين الصحي متوافرا لكل فرد من أفراد الشعب التركي.
في تركيا تعمل الدولة جاهدة لتفريغ 300 ألف عالم — للبحث العلمي للوصول إلى عام 2023..!؟
في تركيا ارتفعت الرواتب والأجور بنسبة 300%، وأصبحت ميزانية التعليم والصحة أكبر من ميزانية الدفاع، وأعطي المعلم راتبا يوازي راتب الطبيب.
تركيا كانت صادراتها قبل مجيء حزب العدالة 23 مليارا، أصبحت 153 مليارا لتصل إلى 190 دولة في العالم.. وتحتل السيارات المركز الأول، تليها الإلكترونيات، حيث إن كل ثلاثة أجهزة إلكترونية تباع في أوروبا هناك جهاز صناعة تركية.
هذا هو الرئيس أردوغان الذي انتفض الشعب التركي عن بكرة أبيه عندما سمع خطابه الـ «12» ثانية، والذي دعا من خلاله الشعب للنزول إلى الميادين والمطارات، ليس لحماية أردوغان، إنما لحماية مسيرة الديمقراطية، وعدم عودة العسكر للهيمنة على الحياة السياسية، وهي التجربة المريرة التي عاشها الشعب التركي خلال 4 مرات سابقة.
لم تمض لحظات حتى كانت الميادين قد امتلأت بالحشود الهادرة تلبية لنداء الرئيس، فوقفت الجماهير أمام دبابات الانقلابيين، حاملين علم تركيا، لم نشاهد صورة أردوغان يحملها ولو شخص واحد، فالوطن هو الذي يعيش الخطر.
كلمات محدودة قالها أردوغان بكل ثقة دون حراسة: أنا سأكون معكم بعد قليل في الميادين، وسنحاكم الانقلابيين.
الشعب التركي لمس حجم التقدم والتطور الذي شهده في عهد حزب العدالة، وبالتالي عرف قيمة نعيم الحرية والديمقراطية والكرامة التي عاشها في ظل هذا الحزب بقيادة أردوغان، الذي سعى إلى بناء المواطن التركي، وإعلاء قيمته، واحترام إرادته، وتوظيف قدراته من أجل خدمة الوطن، وتسخير إمكانات الوطن من أجل المواطن.
واقعة كنت طرفا فيها.
في عام 2013 وتحديدا في شهر مايو، كنت في زيارة إلى تركيا ضمن وفد إعلامي محدود بمناسبة مرور 10 سنوات على تولي حزب العدالة الحكم في تركيا، فكان ضمن الجدول زيارة تلفزيون خبر، وفي قاعة صغيرة جلست مع فتاة تركية معدة ومنتجة برامج، لا ترتدي الحجاب، ولباسها قصير، وتدخن، وكانت الانتخابات البلدية آنذاك قريبة، فسألتها عن خيارها القادم في الانتخابات، وكل الذي في ذهني مسبقا أنها ستصوت لأحد الأحزاب العلمانية، لكنها ودون تردد أجابت: سوف أصوت لحزب العدالة، توقفت قليلا مبتسما، وقلت لها: عذرا على السؤال، لكن هيئتك من خلال لباسك وتحررك تقول إنك بعيدة عن حزب ذي توجه إسلامي، ولديه أيديولوجية معينة، قاطعتني قائلة: أنا لا علاقة لي بفكر الحزب أو انتماءاته، أنا أنظر إلى ما قدم لي هذا الحزب، وبدأت بالحديث عن إنجازات حزب العدالة، فكان مما قالت وأتذكره: لم تكن الأسرة التركية تستطيع أن تملك سيارة مستعملة، بينما اليوم كل بيت في تركيا لديه أكثر من سيارة ومن الوكالة. دخلنا لم يكن يتجاوز 2700 دولار في 2002، اليوم 2013 دخلنا يصل إلى 13 ألف دولار. التعليم مجاني، الجامعات في كل مدينة وقرية، التأمين الصحي لجميع أفراد الشعب.
حقيقة أذهلتني هذه الفتاة غير المحجبة، بتفكيرها المنطقي والواعي والمتقدم، استرجعت هذا الموقف وأنا أشاهد مساء أمس الأول غالبية من في الشارع من غير المحجبات، ولفت نظري كيف أقدمت فتاة غير محجبة على مساعدة أخرى محجبة عندما سقطت على الأرض.
هذا الحشود المليونية التي وضعت أرواحها على أكفها في كل مدن تركيا، وهي خارجة للميادين تلبية لنداء من رئيس يحاول أفراد من العسكر الانقلاب عليه، لم تخرج إلا لأنها عايشت الحياة الكريمة التي وفرها هذا الرئيس، وكيف كان أمينا على هذا الوطن، فانتشله من مراتب متأخرة إلى مقدمة الأمم، وأصبح لتركيا اليوم حضور عالمي، يحسب له ألف حساب.
وكذلك المختلفون مع الرئيس أردوغان، أو الأحزاب المعارضة، كان الجميع على قلب رجل واحد، لم تفرقهم السياسية، بل إن حماس ودفاع من هم مختلفون مع أردوغان، كان أكثر منه حدة، كما ظهر ذلك في تصريحات الرئيس السابق عبدالله غل، الذي عرف عنه في السابق هدوؤه، إلا إنه في «ليلة الكرامة» انتفض، وقال هذه تركيا، ليست دولة في أفريقيا، والأمر نفسه مع رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، هؤلاء لم يختلفوا على الوطن في ساعة الشدة، ووقت المحنة، وضعوا اختلافاتهم جانبا، ونزلوا للميدان صفا واحدا، وكانوا كالجسد الواحد، إنهم كبار في المواقف، فرسان في الخصومة، شرفاء في العمل، ألا يا ليت قومنا العرب يتعلمون من ذلك.
كان الإجماع الوطني هو العلم التركي، الذي التف حوله كل الأتراك، مؤيديهم ومعارضيهم، لم يحملوا صورا لأردوغان، إنما حملوا العلم التركي، ولم يرقص الشعب بعد فشل الانقلاب، إنما اتخذوا الساحات والميادين مصلى في صلاة الفجر جماعة، بعكس ما حدث في دول عربية عندما تحولت الميادين وقاعات الانتخابات إلى رقص وغناء مبتذل.
في خطابه بمطار أتاتورك باسطنبول وجه رسائل غاية في الأهمية بعد أن حط بطائرته، من بين ما قال: إن السلاح الذي نشتريه، والطائرات التي نمتلك هي لحماية الوطن، وليس لقتل المواطنين، ووجه خطابه للجيش قائلا: أنتم جيش محمد لا ينبغي لكم رفع السلاح في وجه المواطنين.
«جيش محمد» تحمل رسائل عدة، أقربها محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية «اسطنبول حاليا»، وفيها الاعتزاز بميراث الشعب التركي وأجداده، وأنهم أحفاد أولئك القوم الفاتحين، ليعطيهم العزة والفخر.
السلاح الذي تشتريه الدول بعرق الشعب، واقتطاع رزقه، لا ينبغي أن يوجه في نهاية الأمر إلى صدور الشعب، فمن يعي هذا الأمر، فها هو بشار يبيد الشعب بسلاح اشتراه من مال الشعب.
فرق بين أردوغان تركيا وبشار سوريا
بشار واجه الشعب بالدبابات..
فيما أردوغان واجه الدبابات بالشعب..
انتصر الشعب التركي الطامح للحرية والديمقراطية، والرافض لعودة العسكر إلى الحياة السياسية، بعد تجارب مريرة، حتى وإن تطلب الأمر بذل الدماء، فللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق، كما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي.
لم يذهب الأتراك بعد فشل الانقلاب في نهاية «ليلة الكرامة» إلى بيوتهم، بل ظلوا في الميادين العامة حتى هذه اللحظة للحفاظ على مكتسبات مسيرتهم، وللتأكيد على دعم شرعية حكومتهم، وليؤكدوا للعالم أنهم ملتفون حول رئيسهم، فلا مجال للمساومة على الوطن.
الشعب التركي ضرب أروع الأمثلة خلال المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة، وتركيا ما بعد 15 يوليو 2016 لن تكون كما كانت قبله، وأردوغان الذي حصل حزبه في آخر انتخابات على نحو 52% هو اليوم تجاوز ذلك بكثير، ولن يجرؤ أي طرف على الدخول في مغامرة مجنونة كما حدث مساء 15 يوليو، فالشعب التركي اليوم وصل إلى مرحلة النضج الديمقراطي، ولن يقبل بالعودة من جديد إلى «عسكرة» مؤسساته المدنية.
شكرا شعب تركيا قدمت للعرب درسا جديدا.
ولنا كلمة