ظنوا أنهم قد اغتالوه.. وما علموا أنهم قد أحيَوه
ليس من السهل الكتابة عن إنسان عاش للأمة ومات بالأمة.. ليس من السهل الكتابة عن أخ وصديق ورفيق درب في الكثير من المهمات.. ليس من السهل أن تمسك قلماً لتكتب كلمات هي أصعب من الجبال.. ليس من السهل أن تكتب كلمات وداعٍ في أخ طالما لازمته.. وطالما عايشته.. وطالما تبادلت معه الأحاديث.. طالما تبادلت معه الهموم والأشجان.. وطالما تبادلت معه الآمال والآلام.. ليس من السهل أن تكتب كلمات وداع.. يمكن ان تذرف الدموع، وتسكب العبرات.. لكن أن تخط كلمات رثاء تودع بها أخاً عزيزاً صادقاً صدوقاً مخلصاً.. صعب جداً.
الشهيد علي حسن الجابر.. تلازمنا في عمل طوال سنوات، فكان نعم الأخ.. ونعم الصديق الوفي.. نعم الزميل المخلص.. ونعم الناصح الأمين..
أيادي الغدر التي طالته وهو يجاهد بالصورة لنقل الحقيقة التي يراد تغييبها على أرض الجهاد ليبيا.. كتبت له عمراً جديداً.. نعم اغتالوا جسده.. أصابوه برصاصاتهم الغادرة.. وما علموا أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.. وأحياء عند الأمة يستذكرون.. وقناديل نور للأجيال تسترشد بهم.. ظنوا أنهم قد اغتالوه وما علموا انهم قد أحيَوه..
اغتالته اليد الآثمة من الظهر.. وهكذا هي الطغمة المجرمة التي تخشى مواجهة الحقيقة وجهاً لوجه.. فتتسلل لتطعن الشرفاء من الظهر غدراً وخلسة.. ثم تهرب وتولي الأدبار، ظناً أنها قد أفلتت من العقاب، أو نجحت في مهمتها القذرة..
قد تضحك هذه الفئة المجرمة في بداية الأمر، لكن العبرة من يضحك أخيراً.. قد تكسب جولة لكنها لن تكسب المعركة..
دم الشهيد علي حسن سيكتب مرحلة جديدة في الصراع بين الطاغية وزمرته وعصابته.. وبين الفئة المجاهدة الصامدة الصابرة المحتسبة.. المنتصرة في نهاية الأمر..
قطرات دم الشهيد شحذت الروح من جديد، وأعطت دفعة قوية للمجاهدين لمواصلة القتال ضد المستبد، الذي يجثم على أرض ليبيا وشعبها طوال 42 عاماً، أذاقهم خلالها الخسف والنسف والإذلال..
لقد حمل الأخ الشهيد علي حسن أمانة الصورة، فأداها على أكمل وجه.. حتى اللحظات الأخيرة، مدافعاً عن هذه الأمانة بروحه ودمه، رافضاً الانسحاب من أرض المعركة، مقدماً بذلك نموذجاً مشرفاً لأبناء هذا الوطن..
لقد قدم الشهيد نموذجاً مشرفاً عن أبناء هذا الوطن في حياته من خلال أعماله، وتقديم صورة مشرفة من الالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاق.. والإخلاص في المهام التي يقوم بها بكل تفانٍ وجدية.. واليوم يصر أن يترك الحياة الدنيا وهو يقدم هذه الصورة المشرفة عن هذا الوطن المعطاء.. عن هذا البلد الذي يقدم يومياً درساً لمن يستوعب الدروس..
طوال أكثر من ثلاثة عقود من حمل الكاميرا على كتفه، كان حريصاً أن ينقل بصدق الحقيقة.. تنَقَّل من أجلها في أصقاع العالم.. باحثاً عن الحقيقة لينقلها عبر كاميرته التي لم تفارقه أبداً في حله وترحاله.. ليقدم اليوم روحه فداء لهذه الحقيقة.. فلطالما نقل للعالم لقطات فيها الكثير من المعاناة والمآسي والجراح.. واليوم تنقل كاميرات العالم لحظات فراقه للدنيا.. تنقل جثمانه المسجى وهو يحمل على الأكتاف..
غادر الدوحة متجهاً إلى ليبيا وهو يحمل همَّ الأمة.. ذاهباً إلى تلك الديار ليشارك في نقل الحقيقة، التي حاول الطاغية القذافي وعصابته المجرمة إخفاءها عن العالم.. واستطاع أن يفضح بكاميرته الجرائم التي يرتكبها الطاغية من خلال كتائبه الأمنية، ومرتزقته الذين جاء بهم ليقتلوا الشعب الليبي المجاهد..
أبت روحه أن تنتقل إلى بارئها إلا وهو في ساحة الجهاد بالكلمة والصورة.. وهذه هي الميتة الطبيعية لهذا الرجل، الذي اختار طريقه ولم يَحِد عنه أبداً، وقدم روحه فداء للمبادئ التي يؤمن بها.. وهكذا هم الرجال..
المصادفة الغريبة أو اللقاء الروحي ـ إن صح التعبير ـ ما حدث قبل اغتياله، فقد كان عائداً من مدينة “سلوق” الليبية، وهي التي أعدم بها شيخ المجاهدين عمر المختار على يد مستعمر، بعد أن قام بتصوير لقطات في المدينة تظهر صمودها ودعمها للثوار المجاهدين، ومر خلال هذه الزيارة بقبر الشهيد المجاهد عمر المختار، وإذ به يلحق بالمختار بعد لحظات، ولكن على يد مستبد، تاركاً خلفه نظارة، ومثلها ترك الشهيد عمر المختار..
الحقيقة ستبقى ساطعة، لا يمكن لأي يد آثمة أن تغتالها.. الحقيقة التي سقط من أجلها الأخ والزميل والصديق علي حسن الجابر شهيداً، ستظل تسطع مهما حاول الطغاة إخفاء نورها.. ستظل راية الحقيقة ترفعها أيادٍ كثر تؤمن بالحقيقة، وتدافع عنها بكل ما أوتيت من قوة، ليست بالضرورة قوة جسدية أو مادية، فهناك قوة أكبر من ذلك بكثير، يكفي الإيمان بالحقيقة فهي القوة الحقة التي لا يمكن زحزحة معتنقيها مهما كانت الضغوط..
إذا كنا اليوم نودع الشهيد علي حسن الجابر جسدياً، فإن روحه ستظل ترفرف علينا، وعطاؤه سيظل يذكر بين الأجيال، وأحباؤه سيظلون يحملون راية الحقيقة، ويدافعون عنها، وزملاؤه بقناة “الجزيرة” سيواصلون العطاء بقدر أكبر من الدافعية، وحماس أكثر من ذي قبل..
على قدر تعلقنا بالأخ والزميل الشهيد علي حسن، إلا أن عزاءنا أنه قد لقي ربه شهيداً، ليختم رحلة العطاء في الحياة الدنيوية بفوز كبير..
فزتَ وربِّ الكعبةِ يا أبا عبدالله..