تشهد الدوحة بعد غد الثلاثاء انعقاد القمة العربية، وسط تحديات جسام تواجه العالم العربي وشعوبَه، على مختلف الأصعدة، وتشكل عنصراً ضاغطاً على جدية العمل العربي، الذي ظل لسنوات طِوال يراوح مكانه، دون أن يخطوَ خطوات عملية، ودون أن يصل إلى تطلعات الشعوب ولو بنسبة 10 %،
بالأمس وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما إسرائيل بأنها أكبر قوة في المنطقة، وقال: إنها (أي اسرائيل) تحظى بدعم أكبر قوة في العالم، وهذه حقيقة ماثلة أمام الأنظمة العربية منذ سنوات بل وعقود، ولكن لم نجد وقفة حقيقية من الدول العربية للتعامل مع هذا التحدي الإسرائيلي الذي يستقطع يومياً ـ على مرأى ومسمع من العالم ـ أراضيَ عربية فلسطينية، ويعمل بكل وقاحة على تهويد القدس، دون أن يجد له تصدياً عربياً لهذه الخطوات الإسرائيلية المتصاعدة والمتسارعة.
عندما انتفضت العديد من الشعوب العربية مطالبة بحقوقها المشروعة، بعد أن غابت العدالة الاجتماعية، وانتشر الفساد، وعم الظلم الاجتماعي، وأهينت كرامة الإنسان في تلك الدول.. ظلت أنظمة عربية تتفرج على تضحيات وعذابات تلك الشعوب، بدعوى عدم التدخل في الشأن الداخلي، ربما هذا صحيح، لكن أليس من الأولى التداعي لوقفة عربية من باب “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، قالوا: يا رسول الله ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟
قال: تأخذون على يده “، بمعنى منعه من الاستمرار في الظلم، وهو ما يحدث اليوم، فهذه الشعوب التي انتفضت؛ كما هو حال الشعب السوري الشقيق، ليست تهوى التضحيات، وليست تهوى الدماء أو “مهووسة” بالدماء.. إنما انتفضت عندما طفح بها الكيل، ولم تجد طريقاً لإحلال العدالة الاجتماعية، التي غيبتها أنظمة فاسدة ومفسدة.
القمم العربية التي عقدت بعد ثورات الربيع العربي لم نجد أنها انحازت للشعوب، أو بحثت عن حلول عادلة مع الأنظمة التي تقتل شعبها بالطائرات والصواريخ وكل أنواع الأسلحة، ولا وقفت موقف العدالة مع حقوق الشعوب العربية، فكيف بنا نطالب دول العالم أن تقف مع حقوقنا العربية مادامت أنظمة عربية تقتل شعوبها، والعالم العربي يتفرج على هذه الدماء التي تسفك أنهاراً؟.
آن الأوان أن تشكل القمم العربية منعطفاً جديداً، وأن تسعى إلى بلورة عمل عربي جاد، وحقيقي، نحو تلاقي هذه الأمة بحق وصدق، بعيداً عن التشرذم والتمزق والتشتت، الذي تعاني منه، وشعوبها منذ عقود مضت.
إن قمة الدوحة اليوم تمثل فرصة تاريخية لعمل عربي جاد وصادق، نحو “تضميد” جراح العالم العربي، بعد تنظيفها من “الصديد” الذي تركته هذه الجراح طوال العقود الماضية، مما تسبب لكثير منها تراكم “القي” و”الصديد” فيها، وبات من المهم تنظيفها قبل إغلاقها أو تضميدها، ففي إغلاقها دون تنظيفها “تفجير” لها من جديد في أي لحظة.. قمة الدوحة فرصة تاريخية ليجلس القادة العرب، في دوحة العرب، ويناقشوها بكل صراحة وشفافية، قضايا العالم العربي، قضايا شعوبهم، التي تنتظر منهم الكثير في ظل هذه التحديات الجسام، التي تواجه كيانات دولنا، وتواجه شعوبنا، فالأخطار لا تواجه الشعوب فحسب، إنما تواجه القادة إذا لم يلتفتوا إلى شعوبهم بحرص صادق على مصالح هذه الشعوب التي استأمنتهم على هذه الأوطان.
ملفات مهمة مدرَجة على قمة الدوحة، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية.. وستعرض على القادة، الذين تستقبلهم دوحة العرب بكل ترحاب وحب وتقدير.. كعادتها دائماً مع أشقائها العرب، الذين يحِلون إخوة أعزاء بين إخوانهم في قطر.. هذه الملفات بالتأكيد مهمة، وهو ما يتطلب قرارات صادقة تتخذ من أجل هذه الأمة.
لقد عودتنا قطر طوال السنوات الماضية على تبني مبادرات نوعية تصب في صالح قضايا الأمة، واستطاعت عبر جهود نوعية من إنهاء أزمات كانت تعصف بدول عربية شقيقة، بدءاً من الملف اللبناني في عام 2008، مروراً بفلسطين واليمن والقرن الإفريقي.. وانتهاء بملف دارفور، الذي ما تزال قطر تواصل دورها الرائد فيه، للتوفيق بين جميع الفرقاء من أجل السودان الوطن والشعب.
اليوم قطر ستقود العمل العربي خلال عام بعد ترؤسها الدورة الحالية للقمة العربية، وتعقَد على هذه الرئاسة آمال عريضة، لما عرف عن القيادة القطرية من جدية وحرص أكيد على الشأن العربي، والدفاع عن قضايا الأمة في مختلف المحافل، وتقديم الدعم للدول العربية بما لديها من إمكانات، مع الانحياز إلى قضايا الشعوب بكل موضوعية ومصداقية، وتبني مبادرات نوعية تهدف لرأب الصدع بين الدول العربية.. هذه الجهود قدمتها القيادة القطرية انطلاقاً من واجبها تجاه أشقائها العرب، دولاً وشعوباً، دون انتظار لزعامة أو حتى لكلمة: “شكراً”.. المنطلقات القطرية مبعثها مبادئُ راسخة، وقيمٌ ثابتة، وإيمانٌ بواجبها تجاه أمتها وشعوبها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ولن تحيد قطر قيادة وشعباً عن هذه المبادئ التي تؤمن بها، وتعتز بأنها تنتسب لأمة عظيمة.
العمل العربي بحاجة إلى أسس حقيقية، وآليات عمل واضحة، من أجل السير به قدماً نحو ترجمة الآمال التي تعقدها الشعوب على القمم العربية، التي بحاجة إلى عمل مؤسسي، بعيداً عن العشوائية، التي باتت تصبغ العمل العربي بصورة عامة.. للأسف الشديد!!. دول شتى تجمعت وتكتلت تحت مظلات مختلفة، واستطاعت أن توجد لنفسها مكانة في عالم السياسة والاقتصاد، وخلقت لها كيانات يضرب بها المثل، وينظر لها بكثير من التقدير، ليس فقط الاتحاد الأوروبي، إنما حتى جيراننا “الآسيويون” أصبح لهم اليوم كيان معتبر، عبروا من خلاله ـ باقتصادات بلدانهم ـ إلى عالم متطور، ونهضوا باقتصاداتهم إلى مراحل متقدمة، فيما دولنا العربية ظلت تراوح مكانها، منشغلة بأمور ثانوية، مبتعدة عن جوانب التنمية، وهو ما جعلها تعيش في مؤخرة الركب العالمي.
آن الأوان للدول العربية أن تتحرك مجتمعة نحو العمل الجاد والمخلص، من أجل نهضة هذا الكيان العربي الذي تتوافر له كل مقومات النهضة والتطور، سواء من ناحية الثروات في باطن الأرض أو ظاهرها أو الثروة البشرية.. ولكن للأسف غير مستثمرة بصورة صحيحة، بل ومنهوبة من قبل الداخل والخارج.
آن الأوان أن يكون للشعوب العربية نصيب في ثرواتها، وإلا ستظل تعاني الحرمان والبؤس والفقر.. وغياب العدالة الاجتماعية.. نحن بحاجة إلى مرحلة جديدة يرتقي إليها القادة، تلامس تطلعات وآمال شعوبهم، التي منحتهم الثقة لقيادتها وتولي أمرها.