وفاة المغفور له إن شاء الله سعادة الشيخ فهد بن جاسم آل ثاني في حادث سير أليم ، تعرض له من سائق شاب، ليلة الجمعة الماضية، تفتح مجددا ملفاً طالما كان محور الاحاديث في كل المناسبات، وفي كل المنابر ، الا وهو ملف حوادث الطرق.
هذا الملف الذي بات يمثل “نزيفا” مؤلما للمجتمع بأسره، وليس فقط للاسر التي تفقد عزيرا عليها، فنحن في نهاية المطاف اسرة في هذا البلد العزيز، والذي يؤلم جاري لهو يؤلمني قطعا، وما ألمّ بأسرة آل ثاني الكرام بفقد الشيخ فهد بن جاسم، قد آلم كلّ اسرة في قطر، فقد عرف عن هذه الشخصية الكثير من التواضع والاخلاق والقيم الرفيعة، اضافة الى جهده الكبير وعطائه المميز في مواقع العمل التي تولاها.في العام الماضي فقدنا 220 شخصا جراء حوادث الطرق ، غالبيتهم بالطبع من الشباب، وهناك الآلاف الذين اقعدتهم هذه الحوادث عن ممارسة حياتهم الطبيعية، ودورهم في المجتمع، وخسرت الدولة عطاءهم الذي كان يمكن ان يساهموا به في مواقع العمل التي سيتبوأونها، اضافة الى الملايين التي تصرفها الدولة على علاج ضحايا الحوادث، والملايين كذلك من الخسائر التي تتكبدها المرافق العامة بالمجتمع، وقبل هذا وذاك الالم الكبير الذي تسببه تلك الحوادث لأسر ابنائها.
قيل الكثير في قضية حوادث الطرق، وناقشت وزارة الداخلية مشكورة قوانينها، وحدثت ما يمكن تحديثه، وشددت في اجراءاتها، وتشددت في الغرامات والمخالفات، وعملت كل ما باستطاعتها من اجل الحد من هذه الحوادث القاتلة التي باتت تسبب صداعا وألما في المجتمع ، ونزيفا حادا في الشوارع.
وحقيقة فإن وزارة الداخلية لا تتحمل وحدها مسؤولية هذه الحوادث، فالجميع في هذا المجتمع، افرادا كانوا او مؤسسات يتحملون جزءا من هذه المسؤولية، بدءا من الاسرة، وانتهاء بمؤسسات ووزارات العمل، مرورا بالمؤسسات التعليمية ممثلة بوزارة التعليم والمدارس، ووزارة الاوقاف، ومؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الاعلام، والمؤسسات الاجتماعية والخدمية والشبابية والرياضية.. ، يجب ان يتكاتف الجميع من اجل المساهمة الفاعلة في ايجاد علاج لهذه القضية.
نحن نتحدث باستمرار عن ضرورة ايجاد وعي مجتمعي بقضية الحوادث، وما يترتب عليها من مآسٍ في المجتمع، ولكن فعليا هناك من يعمل عكس الاتجاه، حتى على مستوى الافراد وعلى مستوى الاسر، فعلى سبيل المثال قد يقول الاب ـ نظريا ـ لابنه ان في السرعة خطرا كبيرا على حياته ، وانه في التجاوز اخطار لا تعد ولا تحصى، … ولكن عندما يكون الابن راكبا مع ابيه السيارة ، تجده لا يراعي السرعات المحددة، واذا ما جاء عند اشارة ضوئية، او منعطف في شارع، او عند دوار ، فانه لا يتردد في الاقدام على التجاوز من كل الاتجاهات ، وارتكاب المخالفات ” عيني عينك ” امام ابنه، ضاربا عرض الحائط بكل النصائح “النظرية” التي يتغنى بها في جلساته مع اسرته وبين ابنائه.
المناهج الدراسية هل تعين على ايجاد وعي بمخاطر هذه الحوادث التي لا يكاد يوم يمر دون ان نسمع بحالات وفيات؟ المؤسسات الاجتماعية والشبابية ما مدى مساهمتها بخلق وعي لدى الشباب بضرورة التقيد بالقوانين والتشريعات المنظمة لحركة المرور؟ الاندية الرياضية ما هو دورها في تكوين ثقافة بالمخاطر التي تترتب على رعونة القيادة والاستهتار بحقوق الآخرين ؟ وزارة الاوقاف والمساجد والمنابر هل تساهم بدورها التاريخي في الاصلاح والتوجيه والارشاد في المجتمع؟ وسائل الاعلام هل بات دورها يقتصر فقط على الحديث عن قضايا ما “دون السرة ” ، والبحث عن الماديات على حساب القيم والاخلاق وحماية الاجيال؟ … .
يجب ألا نحمل وزارة الداخلية كل شيء ، الداخلية لا تستطيع ان تضع شرطيا مرافقا لكل شخص ليراقب سلوكه، ولا تستطيع ان تضع رادارا في كل مائة متر في كل شارع لتحد من السرعات الجنونية التي يتسابق بها الكثير منا في الطرقات، ولا يمكنها اجبار السائقين على الالتزام بالقوانين والتشريعات التي تضعها.. ، نعم قد يلتزم السائق بالسرعة عند مروره من عند رادار او شرطي مرور ، خوفا من تسجيل مخالفة، لكن ليس قناعة بالمخاطر التي تترتب على السرعة، وبالتالي يجب ان يكون هناك جهد مشترك من جميع الاطراف ـ افرادا واسرا ومؤسسات ووزارات ـ لوضع استراتيجية متكاملة للنظر في كيفية خلق وعي لدى شرائح المجتمع المختلفة، خاصة الشباب منهم، فالقوانين والعقوبات وحدها لا تكفي ، اذا لم تكن هناك قناعة راسخة بأهمية التقيد بتلك القوانين والتشريعات، لأنه من السهولة التحايل على تلك القوانين، اذا غاب الوعي، واذا غاب الضمير، واذا غاب الوازع الداخلي لدى الشخص.
نريد حملة متواصلة، ليست وقتية، تتكامل فيها كل الادوار، وتتضافر فيها كل الجهود، من اجل الحد من ” نزيف الشوارع ” الذي يؤدي يوميا الى فقدان شباب هم في مرحلة العطاء.
صحيح انه خلال العام الماضي انخفضت حالات الوفيات جراء الحوادث عن العام الذي قبله، ولكن هذا الانخفاض ليس مؤشرا على ان هناك وعيا وقناعة بمخاطر السرعة وعدم الالتزام بالقوانين، انما قد يكون انخفاضا وقتيا جراء صرامة قانون المرور الجديد، الذي طبق قبل نحو عام ، لذلك من المهم ان يعمل كل طرف ـ فردا كان أو مؤسسة حكومية أو خاصة ـ من اجل بلورة فكر واع بمخاطر الحوادث وما يترتب عليها من دمار في المجتمع.
المسؤولية مشتركة، ويجب علينا ألا نتنصل منها، أو نلقي بها على الآخرين، أو على جهات حكومية محددة ، اذا استشعرنا هذه المسؤولية، فانه يمكن الحديث عن آليات تحد من حوادث الطرق التي تؤرق مجتمعنا ليل نهار ، فهل من مجيب؟