هذا الشعور تغيّر بالأمس، عندما انحازت لأول مرة جامعة الدول العربية إلى الشعب العربي، ولامست قضاياه وحقوقه ومعاناته على أرض الواقع، وهو يواجه بطش واستبداد وطغيان نظام حكم جثم على صدر شعبه أكثر من 40 عاما.
12 نوفمبر 2011 يمثل تحولاً تاريخياً في مسيرة جامعة الدول العربية بإصدار قرارات تدين نظاماً عربياً عضواً فيها، بل مؤسساً لهذا الكيان، ألا وهو سوريا، التي يواجه شعبها الأعزل اليوم آلة البطش الرسمية، ويواجه قمع الأجهزة الأمنية، ويمارس ضده القتل اليومي بصورة لا إنسانية، حتى في أيام العيد، ولم يستثن من ذلك شيخاً كبيراً، أو امرأةً عجوزاً، أو طفلاً صغيراً، أو فتاةً بعمر الزهور..
هذا التحول في العمل العربي الرسمي عبر جامعة الدول العربية، التي كانت في حالة “موت سريري” منذ عقود، يحق أن يسجل ويؤرخ، على اعتبار أنها انحازت لشعب عربي طالما كانت المناداة والمناشدة من قبل الشعوب العربية بأن تلتفت الجامعة إليهم، بدلاً من الإنصات التام والكامل إلى النظام الرسمي، الذي يغلب عليه طابع الحفاظ على كرسي الرئيس، ولو كان على حساب جثث الأبرياء، وأشلاء الشعوب.
هذه الصحوة في الجسد العربي تحسب بالدرجة الأولى لوعي وصبر ومصابرة الشعوب العربية، التي إلى يوم سبق تاريخ الأمس كانت تتهم جامعة الدول العربية بالخيانة، وأنها ليست مؤهلة لتحمل مسؤولياتها التاريخية حيال شعب يذبح ليل نهار، وعلى مرآى ومسمع من العالم كله، والنظام العربي كله.
هذه الروح التي بدأت تسري في الجسد العربي يمكنها أن تعيد الدور لجامعة الدول العربية إذا ما استمرت في التدفق، واستمرت في إيلاء مصالح الشعوب الأولوية، ولم تصم آذانها عن آمال وآلام هذه الشعوب التي تئن تحت وطأة آلة القمع والقهر والأوضاع الاقتصادية المتدهورة في كثير من الدول العربية، حتى تلك التي تمتلك ثروات طائلة، إلا أنها للأسف استغلت في “نزوات” ومصالح شخصية، وبناء امبراطوريات مالية على حساب قوت الشعب المقهور.
هذا الدور لو كانت الجامعة تلعبه في السابق لما وصلت الأوضاع العربية من السوء إلى هذه الدرجة، ولما فتحت النوافذ وشرعت الأبواب لدخول القوات الغربية، والتحالفات العالمية إلى البيت العربي، فغياب جامعة الدول العربية عن القيام بدورها أتاح لكل الطامعين في العالم العربي الدخول بكل ترحاب، في ظل عجز عربي، وتقاعس الجامعة عن القيام بدورها في حل الخلافات العربية العربية، وفي وقف تسلط بعض الأنظمة العربية على شعوبها.
القرارات التي أصدرتها جامعة الدول العربية بالأمس يمكنها منع التدخل الأجنبي في حل الأزمات في العالم العربي، فإذا ما وجد الدور العربي، وإذا ما جاء الحل العربي، فان القادم الأجنبي لن يجرؤ على المجيء تحت أي ستار، وبالتالي فإن المطلوب اليوم دعم الجامعة، ومساندتها للعب دورها المفروض القيام به، والإنصات إلى الشعوب العربية، التي بالتأكيد ليست من “هواة” البحث عن المشاكل أو المواجهات مع أنظمتها، طالما كانت هذه الأنظمة عادلة وتنصت لمتطلبات شعبها، وتصغي إليه جيداً في استشراف المستقبل.
الشعوب العربية قد تصبر على الضيم والظلم سنوات، ولكن إياك من غضب الحليم، وهي كذلك هذه الشعوب التي صبرت كثيراً على أنظمة فاسدة ومفسدة، وصبرت كثيراً على سلب حقوقها، وصبرت كثيراً على الأذى.. ولكن للصبر حدود، فلم تتحرك هذه الشعوب في غضبة وثورة عارمة جزافاً، إنما بعد أن فاض بها الكيل، ولم يعد نظامها يصغي إليها، بل لم يعد يعترف بوجودها، ويعتبر الشعب ما هو إلا مجرد “ديكور” يكمل به هيكل الدولة.
جامعة الدول العربية اعتقد أنها عرفت الآن الطريق الصحيح الذي يجب عليها أن تسلكه، وامتلكت الآن “البوصلة” التي يمكن أن توصلها إلى الهدف الصحيح.. لم تكن في السابق هناك رؤية واضحة، أو “بوصلة” حقيقية راشدة ومرشدة، ولم يكن هناك التفات إلى الرأي العام العربي، الذي ظل مهمشاً طوال العقود الماضية، ولم يساهم للأسف الشديد في صناعة الأحداث التي مرت بالمنطقة، سواء على مستوى دوله أو العالم العربي.
قرارات الأمس اعتبرها إحياءً للعمل العربي، وإحياءً للجامعة العربية، وإخراجاً لها من “غرفة الإنعاش”، التي ظلت قابعة فيها منذ سنوات، ولم يتحرك أحد من الأنظمة العربية بهز هذا “التابوت” إلى أن جاءت قطر فحركت المياه الراكدة في الجامعة، عندما قدمت مرشحاً لمنصب الأمين العام، فكان هذا بمثابة تحول كبير في مسيرة الجامعة، فالعرف لم يكن كذلك، وسحبت قطر مرشحها حفاظاً على الوحدة العربية عندما تم الاتفاق على مرشح مقبول من قبل جميع الدول العربية، وهي اليوم “قطر” تقود تحولاً أكبر في مسار جامعة الدول العربية نحو إعادة صياغة دورها عربياً ودولياً، وإعطاء هذا الكيان الذي يعد الأقدم على مستوى العالم مكانته ودوره، فما معنى وجود كيان اسمه جامعة الدول العربية دون أن يكون له دور فاعل ومؤثر عربياً ودولياً، ويمتلك قرارات نافذة، ولديه القدرة على حل الازمات والخلافات في العالم العربي دون الاستعانة بالخارج، أو البحث عن اطراف اخرى لحل قضايا العالم العربي.
نعم قطر ما كان لها أن تنجح في مساعيها نحو إحياء العمل العربي لو لم تكن هناك أطراف لديها أيضا رغبة حقيقية في النهوض بالعمل العربي، وإخراجه من “ثلاجة الموتى”، لكن هذه الجهود بحاجة إلى من يتبناها ويجاهد في سبيلها، ويعمل من أجلها، وقبل ذلك مؤمن بالعمل العربي، فكانت قطر التي قادت هذا العمل العربي بمبادرات نوعية، دفعت بإحداث نقلة نوعية بالعمل العربي، والتحول إلى عمل يلتقي مع تطلعات الشعوب، ويلتحم بقضاياها، ويلتصق بهمومها، ويلامس آمالها وآلامها..
جامعة الدول العربية تدخل مرحلة جديدة في مسيرتها، مبنية على المصداقية والشفافية مع الشعوب، والالتفات الى مصلحة هذه الشعوب، التي طالما همشت ولم تكن محل اهتمام الجامعة، التي كان كل تركيزها منصباً على إرضاء الأنظمة العربية ولو على حساب دماء وأشلاء الشعوب العربية.
منذ تأسيس جامعة الدول العربية قبل قرابة 70 عاماً – أسست في 1945 – لم يشعر المواطن العربي بأن هذا الكيان خلق أو أسس من أجل مصالحه، أو الانحياز إلى قضاياه، بقدر ما كان التأسيس من أجل دعم ومساندة الأنظمة في الدول العربية، وترسخ هذا الشعور طوال العقود الماضية من خلال ممارسات عديدة، وشواهد كثيرة، تدعم ذلك، وتؤكد الانحياز إلى النظام العربي على حساب الشعوب.